ذهبت بعد أيام قلائل إلى عدلي باشا بديوان الخارجية فوجدته قد يئس نهائيا من تحقيق مطلبنا، فخرجت من عنده وأنا مصمم على اعتزال السياسة، ثم قدمت استقالتي من رئاسة «الجريدة» لرئيسها محمود سليمان باشا، وسافرت إلى بلدتي «برقين»، وكان هذا آخر عهدي بالعمل الصحفي.
عدت موظفا في الحكومة
ما كادت تمضي على إقامتى في برقين مدة طويلة حتى عزل الخديو عباس، وأعلنت الحماية على مصر، ونصب الأمير حسين كامل سلطانا عليها.
وشاع بعد ذلك في البيئات السياسية في مصر أن تركيا حكمت بالإعدام على السلطان حسين وأعضاء وزارة رشدي باشا، باعتبار أنهم قبلوا الحماية، وعلي أنا أيضا باعتبار أني أثرت حركة سنة 1911 ضد الأتراك!
وفي سنة 1915 كنت بالقاهرة، فجاءني أبي من «برقين» مذعورا وهو يقول: إنه قد أشيع عندنا أن سعد زغلول باشا قبض عليه، فخشي أن يكون قد قبض علي أيضا ثم ذهبت معه إلى بيت علي شعراوي باشا، فقال لي شعراوي: «إن ستورس سألني عنك، وسأل هل جففت دموعك من يوم إعلان الحماية على مصر أم لا؟» ثم قال لي: «إن السلطان حسين يرغب في أن تدخل وظائف الحكومة.»
كل هذه الظروف جعلت أبي يستحثني على أن أقبل الدخول في الحكومة حتى لا يقبض الإنجليز علي، فقبلت ذلك؛ إرضاء لوالدي رحمه الله، وعينت رئيسا لنيابة بني سويف؛ ليمكن ترشيحي قاضيا بالاستئناف، ولم ألبث في بني سويف غير أشهر، وأرسل إلي عدلي باشا بأن أحضر إلى الإسكندرية، ولما حضرت أخبرني أن السلطان حسين مصمم على أن أكون مديرا لدار الكتب المصرية خلفا للدكتور شادة المدير الألماني، فقبلت ذلك.
لماذا ترجمت أرسطو؟
نشأت من الصغر ميالا إلى العلوم المنطقية والفلسفية، وقد لفت نظري في أرسطو أنه أول من ابتدع علم المنطق، وأكبر مؤلف له أثر خالد في العلوم والآداب، ولما كنت مديرا لدار الكتب المصرية تحدثت مع بعض أصدقائي في وجوب تأسيس نهضتنا العلمية على الترجمة قبل التأليف كما حدث في النهضة الأوربية؛ فقد عمد رجال هذه النهضة إلى درس فلسفة أرسطو على نصوصها الأصلية، فكانت مفتاحا للتفكير العصري الذي أخرج كثيرا من المذاهب الفلسفية الحديثة.
ولما كانت الفلسفة العربية قد قامت على فلسفة أرسطو، فلا جرم أن آراءه ومذهبه أشد المذاهب اتفاقا مع مألوفاتنا الحالية، والطريق الأقرب إلى نقل العلم في بلادنا وتأقلمه فيها؛ رجاء أن ينتج في النهضة الشرقية مثل ما أنتج في النهضة الغربية.
وفي الحق إن أرسطو لم يكن كغيره معلما في نوع خاص من العلوم دون سواه، بل هو معلم في الفلسفة، معلم في السياسة والاجتماع، فهو كما لقبه العرب بحق «المعلم الأول» على الإطلاق، وكما وصفه دانتي في جحيمه «معلم الذين يعلمون».
Неизвестная страница