الرجل ما قابلته أبدا ولا جالسته مطلقا، ولكني أظن أن سوء مقابلته من أصحابه ومواطنيه غيرت قلبه، وحطت من همته، فأخذ يدافع عن نفسه بعض الأحيان دفاعا أقل تناسبا مع اسمه وملكاته، ولا ينطبق على قائد كبير مثله قابله الدهر باليد العسراء، وجعل الفشل قيدا لجهاده في خدمة بلاده.
لا أنكر أن عرابيا أساء إلى وطنه وأمته، ولكن يجب أن أسارع بأنه أساء غير قاصد إساءته، أساء من حيث أراد أن يحسن، وأضر من حيث أراد أن ينفع، فله ثواب النية، وعليه مسئولية النتيجة.
نعم عليه مسئولية النتيجة، ولكن ما أظنه منفردا بها؛ لأن الحكومة يجب أن تتحمل منها نصيبا أيضا، ومجلس النواب يجب أن يتحمل منها نصيبا، كل على قدره، بل أعيان البلاد وتجارها يجب عليهم أن يتحملوا من المسئولية شيئا.
يقولون: إن عرابيا أخافهم بحد السيف! والواقع أننا ما سمعنا أن رجلا واحدا قتله العرابيون؛ لأنه تنبأ بسوء العاقبة، وأنذر وحذر، ووقف لهم في طريق الثورة موقف الخصم الألد، فعرابي لا يصح أن يكون وحده هو المسئول عن جميع الأعمال التي كونت الثورة، وأدت إلى هذه النتيجة السوداء ...
الفصل الثامن
رحلتي إلى أوربا وإلى المدينة المنورة
(1) فوائد السفر
في السفر ما يملأ العقل راحة، والنفس رضا، ويفرج عن القلب هما، وما أكثر هموم المصري، وكيف يرتاح ويسري عنه الهم والنظام الاجتماعي مختل، والأمة تشقى بأمراضها الثلاثة: الفقر، والجهل، والمرض، ومصر ما زالت محتلة بالأجنبي، والحكم غير مستقر؟!
في السفر ما ذكرت من الرضا، ولكن فيه أيضا ما يميت القلب، ويشغل الفهم إذا قارن المصري بين ما كان يراه في بلده من فشل الأمة في حقها، وبين ما يراه في غير مصر من ديمقراطية صحيحة كاملة، فيها الفرد يساوي الفرد حقيقة، ولا فضل لأحد على أحد إلا بمقدار نفعه لقومه، وليس لأحد من السلطة إلا ما أرادت الأمة أن تعطيه لا هبة ولا مكافأة، بل واجبا وفرضا يحاسب عليه حسابا عسيرا.
في السفر ما رويت في الحالين، وكذلك في الحياة، لا شيء إلا يدور بين النفع والضرر، ولا حال بين النعيم والشفاء.
Неизвестная страница