أما السبب الذي حمل لورد كرومر على الشكوى من صندوق الدين مرارا في تقاريره، فهو أن الصندوق لم يكن يقدم كل ما تطلبه الحكومة المصرية من الأموال اللازمة للإصلاح، وقيل: إن لورد كرومر لما أذن بتأسيس البنك الأهلي، وأيده تأييدا معروفا كان يؤمل أن يقوم يوما مقام صندوق الدين، وها نحن أولاء نرى هذا الأمل يوشك أن يتحقق. •••
ولما تم الاتفاق الودي سنة 1904
2
بين فرنسا وإنجلترا كان أول ما فكر فيه اللورد كرومر حل عرى صندوق الدين، فرضيت فرنسا بالشروط التي عرضها عليها، ثم وافقت الدول الأخرى التي لها أعضاء في ذاك الصندوق.
ولقد بات لورد كرومر في راحة عظيمة من الوجهة المالية بفضل ذلك الاتفاق، فلم يعد يرى فرنسا تعاكسه كما عاكست في مسألة تحويل الدين، ولا تشاكسه كما فعلت مع روسيا حين أخذت نصف مليون جنيه من صندوق الدين لحملة السودان، اضطر إلى رده بحكم من المحكمة المختلطة، ولا يشك أحد في أن لورد كرومر فاز فوزا ماليا عظيما بإدخال ما أراده من المواد المتعلقة بالمالية المصرية في ذلك الاتفاق، كما فاز مع حكومته فوزا سياسيا بحمل فرنسا على التعهد لهم فيه: «بأنها لا تقيم أقل عقبة في سبيل إنجلترا بمصر سواء كان بطلب تعيين موعد للجلاء أو غيره».
وكان من سياسته المالية أيضا، أن يرفع أثقال الربا الفاحش عن عواتق الفلاحين، فأنشأ البنك الزراعي بعد إنشاء البنك الأهلي ونصح للحكومة المصرية وللبنك الأهلي بأن يساعداه حتى يقدم للفلاحين مبالغ صغيرة تسهل عليهم سبيل المعاش، فأنشئ هذا البنك، وجعل من مواد قانونه أن يسلف الفلاحين من عشرة جنيهات إلى 500 جنيه بفائده 9 في المائة ، غير أن بعضهم ينتقد البنك المذكور في بعض أمور ليس هنا محل إيرادها.
وليس في وسع أحد أن ينكر النتيجة التي وصلت إليها مصر بفضل تلك السياسة المالية، وإذا كان بعضهم ينتقد تفاصيل معينة في بعض المصروفات، فإن كل عاقل ينظر نظرة شاملة صادقة إلى تلك السياسة، يحكم بأن لورد كرومر من خيرة الاقتصاديين وأكابر الماليين، فكم زادت مساحة الأرض المزروعة منذ سنة 1883 إلى اليوم، وكم زادت قيمة الأرض الزراعية وأرض البناء بفضل سياسته، فليس بعجيب أن تعظم ثقة الأوربيين باللورد حتى صاروا يعدون كلمته حجة، أما خلاصة آرائه في الحالة الحاضرة، فهي أن هذا النجاح الاقتصادي قائم على قواعد راسخة، غير أنه يجدر بالمصريين وغيرهم ألا يتهوروا في الإقبال على إحدى الشركات قبل أن يدققوا ويفحصوا، ويستشيروا حتى يعلموا إذا كانت ثابتة القواعد قوية الأركان. (3) أعماله السياسية
لا ينكر أحد على لورد كرومر أنه سياسي محنك بعيد النظر رحب الصدر، طويل الأناة كما يجب على كل سياسي، غير أن سياسته لا تخلو من أثر العسكرية التي صرف فيها شبابه، نريد أنه شديد المراس في مطلبه، عظيم الإصرار على أمره، يبقى سنوات عديدة يسعى إلى غاية واحدة، ويتخذ من كل سانحة حجة وبرهانا لتأييد رأيه، ولا يدلنا على هذا كله مثل الحوادث التي جرت منذ 1884 إلى اليوم، ولو اتخذنا من تلك الحوادث مسألة الجلاء فقط مثلا، لكانت برهانا كافيا على خطته، فانظر كيف أنه كان يجاهد جهادا متواصلا حتى يستنبط في كل زمن وسيلة جديدة لإرساخ قدم دولته في وادي النيل، فسير حملة السودان، وكان في كل ساعة يستنجد الدماء الإنجليزية التي أريقت في أم درمان على كل إنجليزي أن يلفظ كلمة الجلاء، حتى استمال إلى رأيه كبار الأحرار والمحافظين، فأيده لورد روزبري، كما أيده لورد سالبري، واستمال إليه لورد لانسدون، كما استمال سير إدوارد جراي، وبات الأسطول البريطاني حارسا لما قرره في المسألة المصرية، فما رأينا حكومته ترد له طلبا، أو تستنكر عليه سياسة، ولو بلغت أقصى درجات الشره ، وإننا نورد للقارئ هنا مثلا واحدا لتلك الثقة العظمى بسياسته:
لما وقع الخلاف بينه وبين الخديو عباس على تعيين حسين فخري باشا خلفا لمصطفى فهمي باشا سنة 1893، ذهب لورد كرومر إلى عابدين، واعترض اعتراضا شديدا على تعيين فخري باشا، وأظهر للخديو أن إصراره على رأيه يجعل الأمر خطرا، وأبرز له تلغرافا من اللورد روزبري ناظر الخارجية يؤيد قوله.
3
Неизвестная страница