История жизни
قصة حياة
Жанры
وأسأل نفسى «أتراك تتمنى أن تستأنف حياتك وتبدأها من البداية كرة أخرى؟» ولا أكذب نفسى فأقول (لا) وأحس أنى فى حيرة، فلا أستطيع أن أقول (نعم) وما خير التكرار إذا كانت النهاية واحدة؟ وإذا تسنت العودة من جديد واستئناف الحياة فى الدنيا مرة ثانية، فهل يكون ذلك بهذه النفس التى ألفتها؟ وأرى الجواب كلا على التحقيق، فأزهو فى فراق النفس، ولا أرى هذا الاستئناف للحياة، أو ابتداءها من جديد، إلا ضربا من الموت، فكأنى سأموت ميتتين بدلا من واحدة. وأحيانا هذا الخاطر بالتهكم والسخرية، أركب بهما نفسى والناس والحياة وكل ما فيها، وتستغرقنى العاطفة الفنية فترة، فأذهل، وأهنأ، لأن بالى خلا من التنغيص، ولأن عاطفتى الفنية جعلتنى فيما أحس أقوى من الحياة نفسها؛ لأنها انتزعتنى من اللجة، ووقفت بى على الشاطئ وأتاحت لى أن أتأمل صورة الحياة من ناحيتها المسلية، وأنا بمعزل عنها فكأنى محلق فوقها، غير خاضع لها ... ومن يدرى؟ لعلى أدخل السرور على نفس أخرى مظلمة كنفسى، بما أعالج من فكاهة الحياة. وليس قليلا أن أستطيع ذلك وإنه ليسعدنى أن أتوهم أنى استطعت إسعاد غيرى ولو دقائق معدودات وقد أكون واهما ولكنه وهم جميل، بل جليل، وأنه الذى يغرينى بتلمس الجوانب الفكاهية فى الحياة، ولا أنكر أن هذا يسرى على نفسى أيضا، ولكن ما ينفعنى ويشفينى ساعة ولا يخلو من نفع لغيرى. وما أظن بى إلا أنى أصبحت كذاك الذى شفاه دواء لا يعرفه الأطباء؛ فهو يعد منه ملء زجاجات يهبها للشاكين المتوجعين لوجه الله وشكرا لله.
وقلت لنفسى أيضا: «يا هذا، لقد جاوزت الخمسين، فأنت الآن فى المنحدر، كنت على جانب آخر من جهل الحياة، تصعد وتتوقل، ويصرفك ما فى الصعود من مشقات وما يتقاضاك من جهد، وما تأخذه عينك من صور ومناظر - عن التفكير فى الذروة وما بعدها، فالآن أشرفت على الجانب الآخر، ولا مفر لك من النزول. وعبث باطل ليس يجدى أن تخادع نفسك، وتوهمها خلاف ذلك. وقد يتيسر لك أن تقف هنا قليلا، وتتلبث هناك لحظة، ولكن الانحدار مهما طال الوقوف، لا مهرب منه، ثم إنك وأنت لا تستطيع أن تجعل عينك إلى فوق، فهى أبدا - أو فى الأغلب الأعم - إلى تحت ... إلى المصير المحتوم ... وهو محتوم ... محتوم، ما فى هذا أدنى شك فما قولك فى رياضة النفس عليه؟ تروض نفسك على الموت.. على الاطمئنان إليه.. على السكون إلى ما يهولك منه، والرضى به؟ واعلم أن هذا لا ينفي حرصك على الحياة وضنك بها، وكل ما فيه أن يعدك لما بعدها، فأنت كالذي يذهب إلى مدرسة ليهيئ نفسه لغده المأمول، فهذا غدك الذى لا ريب فيه، فمن أصالة الرأى أن تتهيأ له. وسينفعك هذا، ومواجهة الحقائق أولى وأرد على المرء من تجاهلها والمكابرة فيها ...».
وراقنى هذا، فصح عزمى على رياضة النفس على السكون إلى الموت.
الفصل السابع عشر
سألت نفسى: «لو أمكن أن أبدأ حياتي من البداية، مرة أخرى، فهل ترانى أسير فيها كما سرت» ؟
وخطر لى، وأنا أدير هذا السؤال فى نفسى أن الأولى أن أسأل: هل يسرنى أو أنا أشتهى، أو أتمنى أن يرتد عقربا الساعة، وأن أكر راجعا إلى تلك البداية؟
ولا أدعى أني كرهت هذا، ونفرت منه، ولكنى أقول. لأنى ترددت وصحيح أنها كرة - لو أتيحت - يكبر بها الأمل فى طول البقاء فى هذه الدنيا، والتلبث على الأرض، ولكن المعول فى الحياة ليس على الطول والعبرة ليست بالمدة، وعدد السنين، بل الامتلاء والسعة، ولولا شهادة الميلاد لما صدقت أنى تجاوزت الخمسين، فإنى - كما قلت قديما أيام كنت مغرى بالنظم:
أحس كأن الدهر عمرى، وأننى
أخو مغرق الأرضين بالفيضان
ويضحكنى الآن أنى قلت هذا، فما أعرف أخى المزعوم هذا ما عسى أن يكون؟ وقد كنت أعنى نوحا، ولكن نوحا لم يغرق أرضا، ولم يفجر ماء، وكل ما كان منه أنه صنع فلكا حمل فيه من كل شىء زوجين حتى أقلعت السماء، وبلعت الأرض ماءها، فليته ما فعل؟ وهذا البيت مثال للتأليف السخيف الذى لا دقة فيه ولا إحكام. وبعد أن يقول المرء إن الدهر كله، عمره، لا يقبل منه هذا القياس المحدود، بأن يكون أخا نوح أو حتى أخا لآدم، فإن مسافة هذا الزمن مهما طالت لا تعدو أن تكون جزءا من الدهر. وقد كنت فى هذا البيت شبيها بالعامة أو الأطفال حين يقيسون ما لا حد له إلى ماله حدود قريبة. وللعامة عذر من أنهم محدودون، وأن فجاج الفكر والخيال والشعور مسدودة عليهم، وليس كذلك الأديب الذى يزعم أنه واسع، وأنه عالم صغير «يسع السبعة الأقاليم طرا» كما يقول ابن الرومى فى بيت يهجو به ابن بوران، أو أمه، ويقول بعد:
Неизвестная страница