История жизни
قصة حياة
Жанры
وكان كل طريق إلى بيتى، يحوج إلى اجتياز المقابر، فكنت أسلكها كل يوم، وأرى الاجداث المبعثرة فى كل صباج ومساء، وتحت ضوء القمر، وفى قدة الظهر، وفى الظلمة الحالكة، وفى البكرة المطلولة فنفعنى هذا وبلد شعورى بالموت، ومحا استهوالى له وجزعى منه، وجعله فيما أرى وأحس، أمرا عاديا لا غرابة فيه ولا جدة له، حتى لقد صار يتفق لى بعد ذلك أن أحتاج إلى الراحة بعد طول المشى، فأقعد على صوى قبر من القبور الكثيرة فى طريقى، وأشعل سيجارة، وأروح أدخن، وأدندن، بصوت خفيض، أو أرسل الصوت بالغناء، ولا أشعر بحرج أو استنكار.
وكان بدء التحول فى حياتى أن زوجتى ماتت، وإنى لأومن أن لكل أجل كتابا، ولكنى إلى هذه الساعة لا أستطيع أن أعفى نفسى من ثقل الاعتقاد أن الطبيب قتلها، وهو سكران، وقد مات هو أيضا بعد سنوات: فإلى حيث ألقت، وما أعرفني شمت بميت سواه، ولم يعتمد قتلها، ولكنا دعوناه - وقد جاءها المخاض - فشممت رائحة الخمر من فمه، وفحصها ثم قال لى إن الحالة طبيعية، ولم يكن ثم موجب لدعوتى، وسيحصل الوضع في أوانه، ولكنى جئت فلا داعى للانتظار (كذلك قال والله) وكنت أعاونه، فطهر الآلات وشرع فى العمل، وجر الجنين فإذا الآلة التى طوق بها رأسه قد حفرت فيه إخدودا يسع الخنصر، وشغل نفسه دقائق بالجنين، والتنفس الصناعى على غير جدوى، فألححت عليه أن يتركه ويعنى بالأم، فما ثم شك فى أن الجنين مات، فرجع إلى الأم ليخرج «الخلاص» فكان والله يشده كما رأيت الفرق الرياضية تتجاذب شد الحبل بينها بأعظم ما يملك من قوة، ثم رأى أن هذا لم يجد، فدس يده وأخرج الخلاص مقطعا إربا، ثم لفها، وقال ترقد ولا تسقوها ماء، وأخذنى معه، فقال لى إن الحالة خطرة، وإنه آسف. فلم أطق هذا اللف وسألته: «متى تتوقع أن تكون الوفاة..؟ إنى أسألك عن هذا لأنى أوثر أن أكون على بصيرة، ولا تخش جزعى، فإن واجباتى الآن لا تدع لى وقتا للجزع، فلم يجبنى جوابا صريحا، وقال: سترى ما يكون صباح الغد.
وعدت إلى زوجتى فأدركت مما رأيت أن النزف يلح عليها، وأنها تموت شيئا فشيئا، فبقيت إلى جانبها أقوى نفسها - وأنا يائس - وأشد من عزيمتها، وأبتسم لها وقلبى يتفطر، وبالغت في التظاهر بالاطمئنان حتى لقد خلعت ثيابى وارتديت ملابس النوم، ولكنها كانت تحس من نفسها ما لا أحس، فأوصتنى بولدنا خيرا، وودعتنى، وجادت بالنفس الأخير ويدى على يدها.
وكاد عقلى يطير، وهممت بأن أشكو الطبيب، ولكن ما الفائدة؟! وكيف أثبت تقصيره أو خطأه أو سكره؟ وشق على الأمر حتي لقد تغير رأيى فى الناس والحياة الدنيا، والخير والشر، وحدثت أكثر من طبيب بما كان ووصفت له ما حدث فكانوا يتعجبون، ولكن هذا لم يجدنى، ولم يمنع أن طبيبا ثملا قتل امرأتى، وأين العزاء فى أنه غير عامد، وأن هذا قضاء وقدر على كل حال.
ولم ينجنى من الجنون إلا إكبابى على ابن الرومى والاشتغال بتصحيح الأخطاء فى ديوانه الذي كنت أستنسخه قبل ذلك وهذه أول مرة نفعنى فيها شاعر .
تغيرت جدا بعد هذه الحادثة فأنا فيما أحس وأرى مخلوق آخر غير الذى عرفته فى ثلاثين سنة، على أنى مع ذلك ظللت قادرا على كبح النفس فلم يفلت من يدى العنان أو لم أدعه يفلت.
وانقضت الأربعون - وأحسب أن عادة استمرار المأتم أربعين يوما موروثة من أيام الفراعنة الذين كانوا يبقون الجثة أربعين يوما لتحنيطها - فلم أعد أطيق بيت جدى بعد أن خرجت زوجتى من دنياى فيه، فتركت فيه ما كانت زوجتى قد جاءتنى به فى جهازها واستأجرت بيتا آخر حملت إليه أثاثنا القديم وعكفت فيه على ديوان ابن الرومى لأصححه على قدر الطاقة.
واتفق فى ذلك الوقت أن عقدت محكمة عسكرية لمحاكمة كثيرين فيما زعموه مؤامرة كبرى، وكان المتهمون أكثر من عشرين بينهم سكرتير اللجنة المركزية للوفد المصرى الذى كان يفاوض لجنة ملنر بلندن، وكنت أعمل يومئذ فى «الأخبار» مع المرحوم أمين الرافعى بك فسألنى: من نبعث إلى المحكمة لحضور جلساتها؟ قلت سأحضرها أنا. قال إنه عمل طويل شاق، فدعه لغيرك، قلت كلا، وإن بى لحاجة إلى عمل مضن يشغلنى عن نفسى، ويصرفنى عن التفكير فى أمرى، وما أصبت به فى حياتى. فوافق ودعا لى بخير، ولم تدع لى المحكمة العسكرية وقتا لسواها؛ وكانت تعقد فى اليوم جلستين، وظللت كذلك من يوليو إلى سبتمبر، وكنت فى مساء كل يوم أعود إلى البيت فأرتمى على الفراش وأنام كالميت، فنفعنى هذا أيضا وإن كان أسقمنى.
ومن المضحكات أن جريدة الأخبار دعت الأمة إلى الاكتتاب لإقامة تمثال نهضة مصر للمرحوم مختار المثال وبلغت جملة ما جمعته حوالى ستة آلاف من الجنيهات وكانت الاكتتابات تودع بنك مصر أولا فأول.
ولكن بعض البلهاء ظن أن ما تتلقاه الأخبار من الاكتتاب يحفظ فى بيتى أنا، وكان البيت طبقة واحدة، وله فناءان، واحد قدامه وآخر خلفه، وفيه الفرن وما إليه، وكان الجدار الخلفى واطئا، فأيقظنى ذات ليلة صوت جسم وقع فى الفناء الخلفى فتوهمت فى أول الأمر أن حجرا مزعزعا أسقطه قط أو نحوه، ولكني سمعت بعد ذلك حركة كحركة من يعالج فتح باب، فنهضت، ومضيت إلى الباب الموصد، وفتحت شباكه ونظرت فإذا واحد من أهل الحى ولم يخطر لى أنه جاء ليسرق، فما فى البيت ما يستحق أن يطمع فيه أشد اللصوص قناعة، وظننته جاء يطلب شيئا، فحييته وإن كان قد أسخطنى عليه أن يجىء فى هذا الوقت المتأخر، وفتحت له الباب وقلت له «تفضل» وحملت ما بدا لى من تردده واضطرابه على محمل الخجل فألححت عليه فدخل، فمضيت به إلى المكتبة، وناولته سيجارة وقمت لأصنع له قهوة، فاستغرب سلوكى معه، وأعجبه على ما يظهر، فأقر لى بالحقيقة وسألنى الصفح، فضحكت، وقلت له والله إنى لجدير بأن أخجل منك، فإن البيت فارغ، ودرت به على الغرف ليرى بعينيه مبلغ فراغها فزاد خجله، وطال اعتذاره وعظم أسفه، فخطر لى أن من نقص المروءة أن أرده خائبا، صفر اليدين، ولم أجد غير الكتب، فتناولت طائفة منها، وقلت له خذ هذه وبعها، وإذا احتجت إلى سواها فتعال إلى فقد مللت عبادة الأصنام، وكتبت له رقعة وقلت فيها إنى أعطيته هذه الكتب، حتى لا يزعجه الشرطة.
Неизвестная страница