История жизни
قصة حياة
Жанры
وما أكثر ما كان أبى يضربه، لأنه يسهر، ويدخن! ولكن العلقة الكبرى كانت لما هو أدهى من السهر والتدخين، حدثنى أخى بعد أن كبرت وأصبحت رجلا مثله لى شاربان أفتلهما ولحية أحلقها، قال: (لم يكن باقيا على العيد إلا بضعة أيام، فخطر لى أن أقص شعرى قبل أن أذهب إلى الحمام) - وكان أخى مغرما بحمام السوق أو الحمام التركى، يؤثره على ما عداه - وكنت قد مللت حلاقنا، وكان شيخا وقورا له لحية كثة هائجة لا يعنى بتشذيبها وتقليمها، وسئمت فوطته الحمراء المخططة، والطشت الذى يضعه لى عند رقبتى ويترك لى حمله، فيسيل الماء الذى يصبه على رأسى بلا حساب، على ثيابى وينفذ إلى بدنى، فقلت ألتمس حلاقا آخر، وذهبت أجوب الشوارع وعينى على دكاكين الحلاقين، حتى خرجت من الأحياء الوطنية ودخلت فى الشوارع التى يكثر فيها الأجانب، واهتديت إلى حلاق أجنبى، فتوكلت على الله ودخلت فأقبل على يرحب بى، وأجلسنى على كرسى وثير لا عهد لى بمثله ونشر على صدرى فوطة بيضاء مكوية، لها كمان يدخل فيها ذراعاى، وقص شعرى، ثم نفض الفوطة وجاء بغيرها وحلق لى ذقنى بماء الكولونيا، ثم راح يقترح على أن يصنع كيت وكيت مما لم أكن أعرف مثل «الماساج» و«الشامبو» إلى آخر ذلك، وأنا جذل أهز له رأسى أن نعم، كلما عرض على شيئا من ذلك، ثم قال: «مانيكور» فهززت رأسى موافقا وإن كنت لا أعرف ماذا يعنى، فدعانى إلى ماوراء ستار ونادى فتاة شقراء حلوة لا أدرى من أى الفراديس جاءت، وقال لها كلاما فابتسمت لى وتناولت كفى الكبيرة الخشنة التى يغطى ظهرها الشعر، وعكفت على أظافرى تنظفها وتقصها، ثم تناولت شيئأ جعلت تدهنها لى به وأنا أكاد أموت من الخجل، وصدقنى حين أقول لك إن هذه أول فتاة غريبة لمست كفها كفى، فإذا أضفت إلى هذا أنها كانت ساحرة الجمال، ذهبية الشعر، وضاءة المحيا، مشرقة الجبين، نظيفة الأسنان، وأن ابتسامتها فاتنة، وفى صوتها عذوبة تذيب المرء، وأنها هيفاء ممشوقة، وخفيفة لطيفة، وأن فى نظرتها لينا يغرى بتطويقها وضمها، وأنى ماعرفت من النساء إلا البدينات اللواتى يخنق روحهن ما عليهن من أكداس اللحم - إذا أضفت هذا كله - فإن فى وسعك أن تدرك عذرى حين أقول لك إنى عشقتها ولم أستطع أن أقول لها شيئا.
وكنت أنظر إليها كالأبله، ثم فتح الله على، وأطلق لسانى من عقاله فقلت وأنا مضطرم الوجه من الخجل: إنى لم أكن أدرى أن المانيكور هو هذا، وإنى آسف فإن كفى كبيرة كالرغيف وعليها غابة من الشعر، وأحسب أنه لا يليق بى أن أدعها تصبغ لى أطافرى، فإنى أخشى أن أضطر إلى إخفاء يدى حتى يذهب هذا اللون، وهممت بأن أنزع يدى من يدها، فشدت عليها ولم تتركها لى، وقالت بأعذب ابتسامة رأيتها فى حياتى:
إنه يسرها أن تنظر إلى هذا الكف الكبيرة الخشنة، وإن أكثر ما ترى من الأكف لين بض غض كأكف النساء، فلم أدر ماذا أقول لها فى جواب ذلك، ولكنى أنفت أن تصبغ لى أصابعى، وأبيت أن أناولها يدى الأخرى وقلت حسبى واحدة، وسألتها: متى يزول ذلك؟ فقالت: «أوه! إنه لا يدوم.. لا تخف» فاشتهيت أن أقول لها أنى أحب أن أراها مرة أخرى، ولكن لسانى وقف فى حلقى، فلم أنطق بحرف، واكتفيت بأن أمد لها يدى مصافحا، فوضعت فيها راحتها الصغيرة فهززتها كأنما كنت أصافح رجلا فأدهشنى أنها قالت: «أرجو أن أراك» فكان جوابى السخيف: «ولكنى لا أستطيع أن أقص شعرى كل يوم» فابتسمت وخيل لها أنها تكاد تميل على وقالت: «إنى أخرج من هنا كل يوم الساعة السابعة مساء»، قلت: «آه! إذا كان هذا فسأنتظرك على الرصيف الآخر.. كل يوم».
قال أخى وهو يقص على هذا الخبر: «وقد كان. تعلقت بها، وصرت أراها كل يوم فنذهب نتمشى، وعرفتنى أشياء كثيرة لم أكن أعرفها، ولو استطعت أن أتزوجها لفعلت، وقد أطلعتها على كل شىء ولم أخف عنها شيئا، ففهمت وعذرت، وبقينا صديقين حوالى عامين حتى خطبها واحد من أبناء جنسها، وأحسست منها زهدا فيه، فأقنعتها بالرضا به إشفاقا عليها، ورغبة فى الاطمئنان على مستقبلها.
ولكن هذا موضوع آخر، فلنرجع إلى المانيكور، وكانت يمناى لسوء الحظ هى التى صبغت أظافرها، فلما عدت إلى البيت وقابلت أبى تناولت يده لأقبلها، فسألنى: ما هذه الحناء التى فى اصابعك؟ فأخبرته بما حدث، وفى ظنى أنى لم أصنع سوءا، وما كنت أعرف ما هو المانيكور، وقد قلت له: إنى لما عرفت ما هو أبيت أن أصبغ أظافر يدى الأخرى، ولكن وجهه اربد وهو يقول: «وما فرق ما بينك وبين النساء الآن»؟ ونهض فدعا إليه الخادم «العم محمد» كما نسميه وأسر إليه شيئا فخرج، وما لبث أن عاد ووراءه ثلاثة من الزبالين الأقوياء، فأشار إلى فربطونى بالحبال، وألقونى على الأرض، وأنا من فرط الذهول لا أقاوم. وجاء أبى بخيزرانة طويلة وأهوى بها على، لا يتقى شيئا ولا يبالى أين وقعت وماذا أصابت من بدنى ولم ينقذنى إلا خالتى (يعنى أمى، فقد كان يدعوها خالتى) فقد أسرعت وانحدرت إلى ولم تبال هؤلاء الزبالين، ولم تعبأ بظهورها أمامهم سافرة وفى ثياب البيت، وارتمت على، وجعلت نفسها بينى وبين الخيزرانة فاضطر أبى أن يكف ولكنه أمر فسجنت فى إحدى «المناظر» ثم خرج.
وأتم أنا الحكاية فأقول إنى توجعت لأخى وحزنت لما أصابه من الضرب الأثيم، وما هو فيه من السجن ولم يكن أحد يستطيع أن يصنع شيئا، وإلا حل به غضب أبى، ولكنى كنت طفلا لا أدرك هذا إدراكه، فصممت على إخراج أخى من محبسه وفك وثاقه. وكان لابد من الحيلة، ولكن الأطفال شياطين فدبرت الأمر مع أخى الأصغر، وجليلة بنت خادمنا، وكان مفتاح «المنظرة» مع الخادم فلم نزل به نلاعبه ونتحين منه غفلة حتى سرقت المفتاح، وأوعزت إلى أخى وجليلة أن يبعدا به عن فناء البيت ففعلا، ففتحت الباب وأعيانى حل الحبال فجئت بسكين وقطعتها، وأطلقت سراح أخى وقد ظل يحفظ لى هذا الجميل طول عمره.
وهنا ينبغى أن أذكر أنى عدت إلى الخادم فدسست له المفتاح فى جيبه وهو لا يدرك ولا يزال هذا الخادم حيا ولا يزال يتعجب لأخى كيف وسعه أن يقطع الحبال الغليظة التى كان موثقا بها، وأن يفتح الباب ويخرج، وكلما ذكر هذه الحادثة، هز رأسه وقال: الله يرحمه! لقد كان عفريتا».
وكان هذا أول سر حرصت فى طفولتى على كتمانه.
الفصل الرابع
قلت لنفسى بعد أن كتبت الفصول السابقة، وسردت فيها بعض ما أذكر من عهد الطفولة: «اسمع يا هذا، لقد رأيت أباك يضرب أخاك، ويلهب له جلده بالخيزرانة الطويلة، ولم يضربك - كما كان يضربه - لأنك كنت أصغر من أن تحتمل ذلك، أو لأنك كنت أشبه بالقطة الأليفة أو كلب البيت الذى يقبل منه أصحابه العبث ولا يرضون عنه أو يسرون به إلا إذا لعب وتشيطن وأظهر لهم نشاطه وذكاءه أو لعل اتقاءه ان يضربك ويشويك بالعصا، راجع إلى أن أمك حية ترزق، وفى البيت معك وأن أم أخيك لحقت بمن غبر فلك دونه من يحامى عنك وأخوك كان قد بلغ مبلغ الرجال فكان أبوكما لايسعه الا أن يثقل عليه الشعور الخفى بأن هذا الشاب يزحزحه شيئا فشيئا عن مكانه: وينزله يوما بعد يوم عن سلطانه، وأنه هو الذى سيحل محله عاجلا أو آجلا، كما حل هو محل أبيه - أى جدنا - وإن كان على قيد الحياة، وعسى أن تكون بواعث الضرب لا هذا ولا ذاك بل تصادم الشعورين، شعور الابن بأنه هو الشاب، وأن أباه قد شيخ، كائنة ما كانت سنة فى الحقيقة وشعور الأب بأن ابنه هو ابنه فهو طفل بالغا ما بلغ طوله وعرضه، أو لا أدرى ما العلة والباعث الصحيح، وإنه ليخطر لى مائة تعليل وتعليل ولا أرى واحدا منها وحده يقنعنى.
Неизвестная страница