История греческой философии
قصة الفلسفة اليونانية
Жанры
وقد نحا ثراسيماكوس في قوله هذا منحى السوفسطائيين؛ إذ قال إن ما يراه القوي عدلا فهو عدل، فالعدل ما تفعل القوة.
هكذا دار الحديث حول العدل، فقد أجيب بأن ما تفعله القوة هو الخير، وهي وحدها مقياس الأخلاق، ولكن ما قول سقراط في هذا؟ وقوله هو رأي أفلاطون، أيفضل أن يكون العدل في المساواة أم في جانب القوة وحدها؟ إنه لم يجب جوابا صريحا، ولم يزد على أن أشار إلى أن العدل يظهر في العلاقة بين أفراد المجتمع، فإذا أردنا دراسة العدل فليس الفرد موضوع البحث، ولكن المجتمع بأسره، فالعدل كما أشار سقراط في هذا الحوار جزء من أسس الاجتماع، فينبغي أن نأتيه عن طريق دراسة المجتمع، لننظر كيف يكون المجتمع وهو في أكمل نظمه، وكيف تكون العلاقة بين أفراده، وبذلك نعلم ماهية العدل، وبعبارة أخرى لو استطعنا أن نصور لأنفسنا دولة عادلة، أمكننا أن نصف الرجل العادل.
يسأل أفلاطون في عجب: إذا كان ممكنا للإنسان أن يتخيل حياة بسيطة سعيدة فماذا يمنع من تطبيق هذا النموذج الخيالي تطبيقا عمليا؟ وهو نفسه يجيب بأن الشره والرغبة في الترف هما اللذان حالا دون قيام «مدينة فاضلة» إلا في الخيال، إن الإنسان ليدفعه الطمع إلى امتلاك أوسع ما يمكن امتلاكه من متاع الدنيا وحطامها، وهو كلما حقق أمنية قامت وراءها أمنيات، فلا يزال يسعى ويسعى إلى تحصيل ما لا يملك حتى يدركه الموت دون أن يصل في طمعه إلى حد، فكانت النتيجة المحتومة لهذه الرغبة الغريزية المركبة في طبائع البشر أن يسطو فريق قوي من الناس على فريق مستضعف فينتزع منه ما يملك قسرا، وكل ذلك ينتهي إلى النزاع بين دولة ودولة، فنشوب الحرب بينهما؛ ولذا كان توزيع الثروة لا يثبت على حال دائمة، فهي متنقلة من يد إلى يد تبعا لانتقال القوة من شخص إلى شخص، أو من جماعة إلى جماعة، وكلما تغير توزيع الثروة تغيرت معه الحال السياسية، فإذا أربت ثروة التاجر على ثروة مالك الأرض الزراعية مثلا تحتم على الأرستقراطية أن تنزل عن مناصب الحكم لتفسح الطريق إلى طبقة التجار، وهذا ما يسمى بالحكومة الأولجاركية.
ومهما يكن نوع الحكومة، أرستقراطية كانت أم أولجاركية، فهي حتما منتهية إلى الزوال إذا ما تطرفت في مبادئها، فالأرستقراطية إن بالغت في حصر القوة وقصرها على فئة قليلة من الملاك كان في ذلك حتفها، وكذلك الأولجاركية إن أسرفت في جمع الثروة بغير تحفظ ولا حذر أدى ذلك إلى فنائها؛ لأن تلك المبالغة وهذا الإسراف لا بد أن يؤدي إلى ثورة الشعب يوما ما «وعندئذ تنهض الديمقراطية، فيتغلب الفقراء على أعدائهم، وينتقمون لأنفسهم من هؤلاء الحكام بالقتل والتشريد، ثم يسوى بين الناس في الحرية والقوة.» وهذه الديمقراطية نفسها إذا ما تطرفت في مبادئها انهار بناؤها؛ لأنها إن جعلت الناس جميعا سواسية في الحقوق والقوى فلن يستطيع الدهماء بحكم تربيتهم أن يحسنوا اختيار حكامهم، وقد يوضع الأمر في أيد طائشة جاهلة تسير بسفينة الدولة في بحر متلاطم الموج، ولا تزال الأنواء تتنازعها حتى ينتهي الحكم الديمقراطي إلى أوتوقراطية مستبدة، فما أهون أن ينبت من صفوف الشعب زعيم يداهن الغوغاء، ويستولي على أفئدتهم بالملق والرياء، فيرفعونه على أكتافهم إلى منصب الحكم، وعندئذ يصرف الأمور كما يشاء ويهوى.
استعرض أفلاطون ذلك كله، وأخذه العجب حين لاحظ أن الناس لا يصطنعون الحكمة في أمور الدولة كما يفعلون في أبسط نواحي الحياة ... إن المريض حين يدعو طبيبا لعلاجه لا يشترط فيه مثلا أن يكون جميلا، ولكنه يحرص كل الحرص أن يكون طبيبا ماهرا قادرا على أداء مهمته على الوجه الأكمل، بل اذهب إلى ما هو أحقر من ذلك من شئون العيش، وانظر كيف لا يرضى الرجل حين يريد لنفسه حذاء إلا أن يكلف بصنعه الحذاء الماهر ولا يعنيه في كثير ولا قليل أن يكون ذلك الحذاء بليغا في خطابته أو وسيما في محياه، فلماذا لا تسلم الدولة أمورها إلى أكفأ الرجال وأبلغهم حكمة؟ ... ولكن من هؤلاء؟ ... وكيف نعدهم؟
لا يرضى أفلاطون أن يجيب قبل أن يلقي بنظرة على طبيعة الإنسان فيتناولها بالتحليل والدرس، وعنده أن لا سبيل إلى فهم السياسة إلا إذا درس الفرد «فالإنسان والدولة شبيهان»، والدولة هي مجموع الأفراد، تستمد حالتها من حالتهم، فإن أردنا دولة كاملة فلا بد من إعداد المواطنين الصالحين أولا، وكل محاولة للإصلاح قبل ذلك ضرب من العبث لا غناء فيه، فدراسة الإنسان خطوة أولية واجبة لكي نرتب عليها كيفية الإصلاح، فننتهي إلى المجتمع الصالح، أي المدينة الفاضلة.
يقول أفلاطون إن سلوك الإنسان وأفعاله كلها مصادرها ثلاثة: الشهوة والعاطفة والعقل، أما الشهوة فمقرها أسفل البطن وهي مستودع النشاط، وأما العاطفة فمقرها القلب وهي تزود الإنسان في سعيه بالقوة والحرارة، وأما العقل فهو في الرأس وهو ربان السفينة يهديها إلى سواء السبيل.
وهذه القوى الثلاث موجودة في كل إنسان ولكن بدرجات مختلفة، فمن الناس من يكاد يكون شهوة مجسدة تضؤل بجانبها العاطفة والعقل، وهؤلاء ينغمسون في الحياة المادية انغماسا، ومنهم تتكون الطبقة العاملة في الأمة، ومن الناس من يطغى فيه جانب الشعور، كالمحارب الذي يقاتل من أجل الانتصار وكفى، ثم لا يعنيه بعد ذلك أظفر بالغنيمة أم لم يظفر، وهؤلاء يكونون الجيش والأسطول، وفريق ثالث قليل العدد جدا لا يستمتع في الحياة إلا بالتفكير والتأمل وهو لا يقصد إلا إلى المعرفة وحدها، هؤلاء هم رجال الحكمة الذين ينشدون العزلة والوحدة، فلا يقتحمون الأسواق ولا يجولون في ميادين القتال، فهم يقفون من الحياة العملية عند هامشها لا يدلون فيها بدلاء.
وهذه القوى الثلاث متصل بعضها ببعض أشد الاتصال: فمن مجموعها تتكون النفس، فالشهوة تسعى، والعاطفة تغذيها، والعقل يهديها، والأمر في الدولة كالأمر في الفرد، فيجب أن يتولى زمام الحكم فيها طائفة حكيمة تكون لها بمثابة العقل من الفرد لتسدد خطاها وتسير بها على هدى وبصيرة، ويجب أن ينصرف إلى شئون الزراعة والتجارة والصناعة فريق غلبت عليهم الناحية المادية (فيكونون طبقة الإنتاج) فهم ينتجون دون أن يتعرضوا للسياسة والحكم، وأما فئة الجيش فتقصر نفسها على الدفاع والحرب، ولا تتجاوز ذلك إلى مناصب الحكومة؛ فالمنتج يكون في أحسن حال ممكنة وهو في ميدان الاقتصاد، والجندي وهو في ميدان الحرب، وتسوء حالهما إذا توليا شئون الدولة، فسياسة الدولة علم وفن يحتاج إلى تدريب طويل، والملك الفيلسوف هو وحده القادر على قيادة الأمة، ولا سبيل إلى إصلاح أمراض المجتمع إلا إذا اجتمعت الفلسفة والسلطة في يد واحدة.
إن كانت الدولة لا تصلح إلا بهذا التقسيم، فما السبيل إلى تنفيذ ذلك؟ كيف نحلل الأمة إلى عناصرها الثلاثة لينصرف كل فريق إلى ما أعد له، فالمادي لميدان العمل، والجندي للحرب، والحكيم للحكم؟ يقول أفلاطون: يجب أن نبدأ بعزل الأطفال عن الكبار لندرأ عنهم عادات آبائهم السيئة؛ إذ من المتعذر أن نكون مدينة فاضلة من الشبان الذين أفسدت أخلاقهم أمثلة آبائهم، وواجب حتم أن نطهر الأخلاق من الضعف والفساد، والتربية التي يؤخذ بها هؤلاء الأطفال يجب أن تكون ممهدة مهيأة لهم جميعا، فلا يمتاز أحدهم عن أحد في شيء؛ لأننا إنما نقصد من التربية غاية واحدة، هي تمحيص الأفراد والكشف عن العبقري النابغ منهم، وليس النبوغ قاصرا على طبقة دون أخرى، وإذن فيجب أن يفسح مجال الظهور أمام كل طفل بغير استثناء، أما مواد التربية في هذه السنوات العشر الأولى فهي لا تزيد عن التربية البدنية إلا قليلا، فالمدرسة عبارة عن ملعب تقام على أرضه الألعاب المقررة.
Неизвестная страница