История греческой философии
قصة الفلسفة اليونانية
Жанры
Euripides
الشاعر المعروف، وقد كلفته صداقة بركليس ثمنا غاليا: ذلك أن حزبا سياسيا قويا كان يعارض بركليس ويكيد له ولأصحابه، فمكر - فيمن مكر بهم - بهذا الصديق أناكسجوراس الذي لم تعنه السياسة في كثير ولا قليل، ولكن حسبه جريمة أن يتصل الود بينه وبين بركليس، فرماه رجل ذلك الحزب بالإلحاد، لتحق عليه لعنة الله والناس، ألم يقل أناكسجوراس إن الشمس صخرة ملتهبة، وإن جرم القمر من تربة؟ فيا لها زراية بالشمس والقمر، وهما عند اليونان إلهان ينزلان من قلوبهم أسمى منازل التقديس، حتى أفلاطون وأرسطو كانا يريان أن النجوم كائنات إلهية، وما أسرع ما سيق أناكسجوراس إلى هيئة القضاء لترى رأيها فيه، ولكنه فر من المدينة هاربا بعون صديقه بركليس، وأخذ سمته نحو وطنه في آسيا الصغرى، حيث استقر في مدينة لامبساكوس
Lampsacus ، وظل بها حتى فاض روحه بعد أن بلغ من العمر اثنين وسبعين سنة، وقد دون فلسفته في رسالة كانت شائعة متداولة في عهد سقراط، ولم يبق لنا منها اليوم إلا أجزاء منثورة.
أقام أناكسجوراس فلسفته على نفس الأساس الذي اتخذه من قبله إمبذقليس وطائفة الذريين، فأنكر الصيرورة المطلقة التي تذهب إلى تحول الكون تحولا مستمرا من حالة الوجود إلى حالة اللاوجود، ومن حالة اللاوجود إلى حالة الوجود؛ لأنه يعتقد أن المادة لا تنشأ ولا تفنى، فينبغي أن نلتمس علة التحول الذي يطرأ على الأشياء في اتصال أجزاء تلك المادة وانفصالها، يقول أناكسجوراس: «لقد أخطأ اليونان في زعمهم أن الأشياء تحدث وتزول، وليس في حقيقة الأمر نشأة وزوال، إنما هو اتصال وانفصال يطرآن على مادة موجودة فعلا، وكان أقرب إلى الصواب أن تسمى هاتان تكونا وانحلالا.»
استعرض أناكسجوراس آراء السابقين، فرأى الذريين يزعمون أن عنصر الكون ذرات متجانسة الجوهر مختلفة الصورة، ورأى إمبذوقليس من قبلهم يذهب إلى أن أصل العالم عناصر أربعة، فرفض المذهبين جميعا؛ فليس مصدر الأشياء عنصرا واحدا هو الذرات، ولا عناصر أربعة، بل إن أنواع المادة على اختلافها سواء في الأصالة والأولية، فليس ما يبرر أن نلتمس أصل الذهب في التراب أو النار، والخشب في الهواء أو الماء، ولم لا يكون الذهب والتراب والخشب والحديد والنحاس والعظم والشعر والماء إلى آخر هذه المواد التي تصادفنا في الكون أنواعا أولية وعناصر أساسية لم ينشأ أحدهما من الآخر؟ وإذن ففي الكون من الأصول والعناصر بمقدار ما فيها من مواد، هذا وقد أنكر أناكسجوراس على طائفة الذريين ما زعموه من إمكان تقسيم المادة إلى ذرات لا تقبل التقسيم، وأكد أن المادة تتجرأ إلى ما لا نهاية.
وقصة الكون هي أن تلك الملايين من العناصر المادية كانت في الأزل خليطا متماسكا في كتلة تمتد في المكان إلى ما لا نهاية، ثم بدأت المواد سيرها بأن أخذت تنحل وينفصل بعضها عن بعض، ليسعى كل شبيه إلى شبيهه، فذرات الذهب إلى ذرات الذهب، وأجزاء النحاس إلى أجزاء النحاس، والكمال الذي تنشده هو استقلال كل من تلك العناصر استقلالا لا يشوبه ذرة واحدة من عنصر آخر، ولكن هذه الغاية التي تقصد إليها المادة لا تدرك في أعوام ولا دهور، كلا بل هي ضرب من المستحيل الذي لن يدرك إلى أبد الآباد؛ ذلك لأن المادة كما سبق لنا القول ممكنة التقسيم إلى ما لا نهاية له من الذرات، وهذه الذرات اللانهائية لكل عنصر من عناصر المادة منبثة في العناصر الأخرى بحيث يستحيل أن تتجمع كلها في كتلة واحدة، فليس إلى حصر الأجزاء اللانهائية من سبيل؛ وعلى ذلك فلن تخلص مادة من شوائب المواد الأخرى، ولو التمست قطعة من مادة خالصة لا تعلق بها ذرات غريبة عنها فلن تظفر بما تريد، وكل ما عساك أن تصادفه شيء يقرب مما تبغي، فهذا الذي اصطلحنا على تسميته ذهبا ليس في حقيقة الأمر ذهبا خالصا، إنما هو أقرب المواد إلى الذهب؛ لأن أجزاء الذهب فيه كثرة غالبة، تخالطها قلة من أجزاء المواد الأخرى، وقل مثل ذلك في سائر العناصر.
يتضح من ذلك أن المادة قد دبت فيها الحركة لكي يسعى الشبيه منها إلى شبيهه، ولما كانت هذه الغاية مستحيلة الحصول فستظل الحركة دائبة إلى الأبد، وهنا نقف مع أناكسجوراس كما وقفنا مع إمبذقليس وجماعة الذريين، نسائله عن تلك القوة التي دفعت المادة إلى الحركة بادئ الأمر، فمن ذا الذي بعث في المادة الميتة السعي والحركة؟ والواقع أن نبوغ أناكسجوراس وعبقريته منحصران في الإجابة عن هذا السؤال، ولولا رأيه في الحركة والقوة الدافعة لما كانت له فلسفة تستحق النظر، فأنت تذكر أن إمبذقليس قد ذهب إلى أن الحب والنفور هما القوتان الدافعتان اللتان تفسران المادة على الاتصال دهرا والانفصال دهرا، ثم تبعه الذريون فذهبوا إلى أن مبعث الحركة هو سقوط الذرات المادية سقوطا آليا في الفضاء، فلا تسير على هدى، ولا تقصد إلى غاية كما يقول ديمقريطس، وكلا المذهبين - كما ترى - يتعلق بالمادة ولا يعدو نطاقها، فأجزاء المادة تتدافع أو تتجاذب من تلقاء نفسها دون أن يشرف على سيرها سلطان بصير، أما أناكسجوراس فقد خطا بالفلسفة خطوة جديدة، سمت بها عن مستوى المادة، فذهب إلى أن القوة التي تدفع المادة وتسيرها على عقل حكيم رشيد، ذكي بصير،
1
يولد الحركة في المادة إقبالا وإدبارا حتى تتكون منها العوالم. لقد بهر أناكسجوراس ما يشمل الكون من نظام وجمال وتناسق، فأدرك على الفور أنه يستحيل على قوة عمياء أن تخرج هذا العالم الدقيق الجميل المتناغم، فهو - كما يظهر - لا يخبط في سيره خبط عشواء، بل يقصد إلى غرض محدود، وأن الطبيعة لتضرب الأمثال كل يوم على أن لها فكرة تسعى إلى تحقيقها، وكيف يسيغ العقل أن يكون تناسق الكون وجماله ونظامه من فعل قوة آلية لا تعرف التناسق والنظام؟ وهل تنتج هذه - إذا أطلق لها الأمر - إلا عماء وفوضى؟ فلا يجد أناكسجوراس سبيلا إلى الشك في أن عقلا ذكيا يدبر المادة ويحكمها، وهو الذي رسم لها خطة السير، ونسق بين أجزائها، وخلع عليها هذا الجمال الفاتن الخلاب.
هذا الإدراك للقوة العاقلة هو انتقال بالفلسفة من طور إلى طور، إذا جرينا مع القائلين بأن أناكسجوراس قد اعتبر ذلك العقل روحا خالصا مجردا ولم يلبسه لباسا من المادة، وقد حكى عنه هذا القول أرسطو وهو قريب العهد بأناكسجوراس، ويمكن أن يتخذ حجة يعتمد عليها، فهو يشير إشارة واضحة إلى أن أناكسجوراس قد تخلص من المادة حين فكر في ذلك العقل، فجرده عن الأجسام تجريدا مطلقا، وقد تبع أرسطو في ذلك طائفة من أبرع كتاب الفلسفة في العصر الحديث، أمثال «زلر
Неизвестная страница