История современной философии
قصة الفلسفة الحديثة
Жанры
وليت هذه الفأس الهادمة قد اقتصرت على العالم المادي، بل تعدته إلى العقل نفسه فأنكرته وأزالته من الوجود! هات هذا العقل وسلط عليه المقياس الذي اتخذه «هيوم» لمعرفة ما هو حق وما هو باطل، ثم انظر ماذا يكون من أمره، نحن لا نعلم إلا طائفة من آثار حسية، فكل فكرة مهما جل قدرها لا يمكن ردها إلى أثر من تلك الآثار الحسية قضينا عليها بالبطلان، تتبع إذن فكرة العقل أو الذات وردها إلى أصلها الحسي، فهل أنت واجد بين الآثار الحسية التي أتتك من الخارج ما معناه «عقل»؟ هل تمثل فكرة الذات إحساسا جاءت به العين أو الأذن، أو أية حاسة أخرى؟ كلا، وإذن فقد تقوض العقل كما تقوضت المادة من قبل، فلا عقل هناك، وكل ما في الأمر سلسلة من المشاعر والعواطف يتبع بعضها بعضا في حركة دائمة دون أن تكون هناك «ذات» أو «عقل» تمسكها كلها في آن واحد. وبعبارة أخرى ليس لدى تلك القوة المزعومة التي أستطيع بها أن أخزن طائفة من الأفكار والمشاعر، بل كل ما لدي هو سيل متدفق متلاحق من الإحساسات العابرة التي لا يربط بعضها ببعض أية رابطة. فأنا الآن في هذه اللحظة ليس لدي إلا شعور واحد أو فكرة واحدة، وهذه ستمضي من فورها وتحل أخرى مكانها، ثم ثالثة فرابعة وهلم جرا، وليس ثمة عقل يمسكها ويجمع بينها كلها في لحظة بعينها، فإن كان هذا القول لا يزال غامضا، فيمكن توضيحه «بفيلم السينما»، فالشاشة لا يظهر عليها في كل لحظة إلا صورة واحدة، ثم تأخذ الصور في التتابع، دون أن يكون بين الصورة السابقة والصورة اللاحقة أدنى رابطة، اللهم إلا التتابع وحده، وبديهي أن الشاشة (وهي مثل العقل في هذه الحالة) لا تحتفظ على صفحتها بكل الصور في لحظة واحدة، بل إن الصورة التي تمضي لا عودة لها، وليس هناك مجال إلا لصورة واحدة في لحظة واحدة. ومن تتابع الصور تنشأ القصة، كما أن من تتابع الأفكار تنشأ الحياة الفكرية.
وهنا يعترض على «هيوم» بحق أنه يرفض وجود العقل أو الذات في آخر رسالته، بعد أن استغل فرص وجوده أثناء البحث، فقد زعم أن هناك بعض العلائق التي تربط الأفكار فقال: إن الذاكرة والخيال عاملان من عوامل هذا الربط، فسواء سمينا هذه القوة التي تربط ما بين الأفكار بالذاكرة أو بالخيال أو بالعقل، فليس يقدم هذا الاختلاف في الأسماء من الأمر ولا يؤخر.
فإن صدق ما ذهب إليه «هيوم» من أن العقل ليس إلا إحساسات متناثرة تتلاحق في العقل، وتتتابع دون أن يكون بينها أية صلة، فلقد انهدمت روحانية النفس وخلودها؛ لأنه بذلك لا نفس هناك ولا روح. ولكن هذا الاعتراض ليس له معنى عند «هيوم»؛ لأنه قد محا المادة والروح على السواء، ولم يبق على شيء منهما حتى يجوز لنا أن نسائله: هل النفس روحانية أو مادية؟
ومن نتائج فلسفة «هيوم» أيضا القضاء على كل دليل ينهض على وجود الله، فهو يقول في كتابه «محاورات في الديانة الطبيعية»: إننا لا نعلم عن العلة شيئا إلا أنها الحادثة السابقة التي نشاهدها قبل حدوث معلولها، وإذن فلا بد من مشاهدة الحادثتين معا: السابقة واللاحقة على السواء، إننا نستدل من وجود الساعة على وجود صانعها؛ لأننا رأينا الساعة والصانع كليهما، وإذن فوجود الكون لا يقوم دليلا على وجود صانعه، إلا إذا رأينا الصانع والمصنوع جميعا. وهنا عارضه «ريد» بأن في الطبيعة علامات كثيرة تدل على أنه يسير وفق خطة معينة، ووجود خطة تقتضي وجود سبب عاقل. فأجابه «هيوم» بأنه إذا كان لا بد لنا من البحث عن علة لكل شيء، لوجب إذن أن نبحث عن علة للإله نفسه.
وينكر «هيوم» في كتابه «مقالة في المعجزات» وقوع المعجزة، على الرغم من أنه لا ينكر إمكانها؛ لأن إمكان وقوع المعجزة الخارجة نتيجة طبيعية لمذهبه الذي ينكر به ضرورة التتابع السببي بين الأشياء والحوادث، فما دامت الأشياء لا تتتابع في نظام معين، فمن الجائز إذن أن يحدث في الطبيعة أي شيء، دون أن يسترعي ذلك انتباهنا أو يثير دهشتنا، نقول إنه ينكر وقوع المعجزة رغم جوازها عقلا، محتجا بأن التجربة قد دلت على أن الكون يسير في نظام معين. فالعقل أقرب إلى قبول استمرار هذا النظام منه إلى قبول كسره واضطرابه. ولكن من حقنا أن نسائل «هيوم»: لماذا يعتبر المعجزة كسرا لنظام الطبيعة بناء على نظريته هو؟ أليس يدعونا إلى اعتبار كل حادثة إدراكا جديدا لا علاقة له بما سلفها من حوادث؟ وعلى ذلك يكون الحادث الذي يسميه هو كسرا للنظام المعهود، مجرد إدراك جديد لا يتصل بالحالة السابقة له، إنه حقيقة جديدة صادفناها في مجرى تجربة الحياة العملية. إن فلسفة «هيوم» لأميل إلى وقوع الحوادث الخارقة غير المعهودة، بل إن مذهبه ليقتضي أكثر من هذا، إنه لا يؤدي إلى أن هناك نظاما معينا في الكون، حتى نقول إنه كسر أو لم يكسر؛ لأنه ليس في أذهاننا فكرة عن نظام موجود بين الأشياء الخارجية، ولا يمكن أن توجد هذه الفكرة ما دامت كل معلوماتنا عبارة عن إحساسات مفككة متناثرة لا يرتبط بعضها ببعض في نظام أو ما يشبه النظام.
رأيه في الأخلاق
يرى «هيوم» أن سلوك الإنسان عمل آلي محض، وليس هناك ما يسمى بالإرادة الحرة، فإن عرفت طبيعة إنسان أمكنك أن تتنبأ بتصرفه في كل مواقفه المقبلة، وهو يزعم أن الدافع الأساسي لسلوك الإنسان هو اللذة والألم، وبهما نميز بين الخير والشر، وليس العقل هو الذي يوجه أعمال الإنسان؛ لأن العقل ملكة نظرية محضة لا شأن لها بالجانب العملي، وكل أثره هو أنه يوجه الدافع الذي ينبعث من الشهوة أو الرغبة، فهو يبين لنا ما هو حق، ولكنه لا يستطيع أن يؤثر في السلوك على نحو معين.
إن ما يدفع الإنسان إلى العمل هو المشاعر والعواطف، وهو يقسم هذه المشاعر إلى هادئة وعنيفة، فالأولى تشمل: الجمال والقبح، والثانية تشمل: الحب والكره، والحزن والسرور، والغرور والتواضع.
وما دامت أعمالنا نتيجة العاطفة فلا يصح أن يكون العقل حكما أخلاقيا، إنما المرجع الذي يجب أن يحتكم إليه هو غريزة أخلاقية يعتقد «هيوم» بوجودها عند الإنسان، وهذه الغريزة تحكم على أخلاقية العمل بناء على ما يؤدي إليه من شعور باللذة أو الألم. فالفضيلة هي ما يثير في الشخص اللذة، أما ما يمكننا من الحكم على أعمال الناس، فهي ملكة خاصة عند الإنسان يستطيع بها مشاركة غيره في شعوره، فيحس بنفس إحساسه، ويقف ذات موقفه، وحينئذ يرى هل ما يقوم به غيره من عمل يستدعي القدح أو الثناء؛ لأنه بذلك يتخيل أن ذلك العمل قد وقع منه هو، ثم ينظر أي شعور قد أثير في نفسه، أهو شعور الزهو فيكون العمل صالحا؟ أم هو شعور الخجل والضعة فيكون غير صالح؟ فاستحسان العمل أو استهجانه يكون على أساس ما يثيره من زهو أو ضعة، وهذا هو مقياسنا في الحكم على سلوك الناس، وليس صحيحا ما يقال من أننا نحكم بناء على ما نراه صالحا لنا، أي أن مقياسنا هو حب الذات؛ لأننا قد نمدح عملا قام به رجل منذ آلاف السنين، أو عملا باسلا يقوم به أحد أعدائنا، مع أنه قد يتعارض مع مصلحتنا.
لقد سبق القول إن الفضيلة هي ما تبعث في النفس الرضا واللذة ، ومعنى ذلك أن الخير هو ما ينفع، ولكن «هيوم» يحذرنا أن نأخذ كلمة المنفعة بمعناها الفردي، فإنه يريد بها المنفعة العامة، فما يعود بالخير على أكبر عدد ممكن من الناس أفضل مما ينفع فردا واحدا فقط، ومن هنا جاء تفضيلنا للعدل والإحسان مثلا على مهارة شخص معين في حرفة ما؛ لأن الأولين يعم نفعهما الناس جميعا بخلاف الثانية، فهي لا تفيد إلا صاحبها أو نحو ذلك. هذا ويقرر «هيوم» أن للفضيلة ثوابها وللرذيلة عقابها، وهما اللذة أو الألم الذي يشعر به من يعمل الفضيلة أو يأتي الرذيلة، وليس لهما من ثواب أو عقاب وراء هذه اللذة العاجلة أو الألم الذي يصيب صاحب الرذيلة في حينها. (1-10) كانت
Неизвестная страница