История современной философии

Заки Наджиб Махмуд d. 1414 AH
42

История современной философии

قصة الفلسفة الحديثة

Жанры

يجيب «سبينوزا» عن ذلك بأن ليس العقل مادة ولا المادة فكرا، فلا يؤثر العقل في الجسم ولا يؤثر الجسم في العقل، ولا هما مستقلان متوازيان إذ ليس هنالك عمليتان، وليس هنالك وجودان مادة وعقل، بل إن في الكون شيئا واحدا وعملية واحدة، تراها من الداخل فكرا ومن الخارج حركة، نعم هنالك وجود واحد يظهر تارة عقلا وطورا مادة، ولكن ليس في الواقع إلا مزيج مندمج من العنصرين، وإذن فالعقل والجسم لا يؤثر أحدهما في الآخر؛ لأنهما ليسا شيئين، بل شيء واحد «فلا يستطيع الجسم أن يحمل العقل على أن يفكر، ولا يستطيع العقل أن يحمل الجسد على أن يتحرك أو يسكن أو يتخذ وضعا آخر.» وعلة ذلك هي أن «حكم العقل رغبة الجسد وميوله ... شيء واحد بعينه.» وليس هذا الازدواج قاصرا على الإنسان إنما هو كائن في كل شيء، فأينما وجدت عملا «ماديا» فليس ذلك إلا جانبا واحدا من العملية الحقيقية التي لا يراها بوجهيها إلا النظر الشامل الذي يمكنه أن يدرك العملية العقلية الباطنة المتسترة وراء الظاهرة المادية، وهي أشبه شيء بخلجات العقل في الإنسان. وعلى ذلك فكل عملية «عقلية» يقابلها عملية «مادية»، «ونظام الأفكار وارتباطها هو نفس نظام الأشياء وارتباطها.» وإذن فعنصر الفكر وعنصر المادة الممتدة شيء واحد، يبدو مرة فكرا، ومرة امتدادا.

ليس هناك فرق حقيقي بين العقل، كما يمثله الله، وبين المادة ، كما تمثلها الطبيعة، فهما شيء واحد «يسمى بالله آنا، وبالطبيعة آنا آخر تبعا لوجهة نظر الرائي، فليس العالم المرئي منفصلا عن الله، بل هو مظهره الذي يبدو به لا أكثر، والعالم يتدفق منه؛ لأنه الينبوع الأول الذي تصدر عنه الحياة وجواهر الأشياء، كما يصدر الشيء النهائي من اللانهائي، أو كما يصدر التعدد من الوحدة، والله هو الوحدة التي تعود تلك الأشياء المتعددة فتلقى فيها مرة أخرى. «الامتداد» هو «فكر» مرئي، والفكر هو امتداد خفي، وهذا يوضح العلاقة بين الجسم والعقل وما بينهما من انسجام تام.»

من ذلك نرى أن «سبينوزا» قد أزال الحد الفاصل بين الجسد والعقل، واتخذ منهما حقيقة واحدة ذات مظهرين، وما دام الأمر كذلك فليس العقل والإرادة شيئين مختلفين، إنما هما حقيقة واحدة، وكل ما بينهما من فرق هو خلاف في الدرجة لا في النوع. فمن الخطأ أن نزعم بأن للعقل «ملكات» منفصلا بعضها عن بعض، إذ ليس العقل حانوتا يتجر بأنواع الفكر، فهذا خيال، وهذه ذاكرة، وتلك إرادة، ولكنه هو الأفكار نفسها في سيرها وتسلسلها، ولفظة «العقل» إنما نطلقها اصطلاحا على سلسلة الأفكار، كما نطلق لفظ «الإرادة» على سلسلة الأفعال والرغبات، مع أن كل فكرة وكل رغبة فيها العقل وفيها الإرادة معا، لا فرق بين فكرة وفكرة، أو بين رغبة ورغبة «كما أن الصخرية موجودة في كل صخرة.» لا فرق بين واحدة وأخرى. وصفوة القول إن «الإرادة والعقل شيء واحد؛ لأن المشيئة فكرة طال بقاؤها في الشعور، ثم تحولت إلى عمل، وكل فكرة لا بد أن تصير عملا، إلا إذا عطلتها عن ذلك فكرة معارضة، فالفكرة هي المرحلة الأولى لعملية عضوية متماسكة، ويتممها العمل الخارجي.»

ويرى «سبينوزا» أن ما يسمى بالإرادة هو في الواقع رغبات أو غرائز أساسها جميعا هو حفظ بقاء الفرد، فكل نشاط بشري - مهما تنوع واختلف - صادر عن هذه الرغبة في حفظ البقاء، شعر بذلك الإنسان أو لم يشعر، وفي ذلك يقول: «كل شيء يحاول أن يبقي على وجوده، وليس هذا المجهود لحفظ بقائه إلا جوهر حقيقته، فإن القوة التي يستطيع بها الشيء أن يبقى هي لب وجوده وجوهره، وكل غريزة هي خطة هذبتها الطبيعة؛ لكي تكون سبيلا لبقاء الفرد، والسرور والألم هما إجابة غريزة أو تعطيلها، فهما ليسا سببين لرغباتنا، ولكنهما نتيجة لها، إذ نحن لا نرغب في الأشياء لأنها تسرنا، بل هي تسرنا لأننا نرغب فيها؛ إذ لا مندوحة لنا عن ذلك.»

فإن صح ما زعمه «سبينوزا» من أن الإنسان مدفوع برغبة كامنة فيه لحفظ بقائه، ولا يسعه إلا أن ينصاع لها، فليس للإنسان إرادة حرة؛ لأن ضرورة البقاء تحدد الغرائز، والغرائز تحدد الرغبة، ثم الرغبة تقيد الفكر والعمل، «فليس للعقل إرادة مطلقة أو حرة، ولكنه حينما يريد هذا الشيء أو ذاك مسير بسبب، وهذا السبب يسيره سبب آخر، وهذا يسيره ثالث، وهكذا إلى ما لا نهاية.» وقد يتوهم الناس أنهم أحرار؛ لأنهم يدركون رغباتهم وشهواتهم، ولكنهم يجهلون الأسباب التي تدفعهم أن يرغبوا ويشتهوا، وهنا يشبه «سبينوزا» الإنسان في حياته بحجر ملقى لا يملك في نفسه اختيارا، غير أنه لو وهب شيئا من الشعور لزعم مع ذلك أنه إنما يسير في هذا الاتجاه المعين برغبته، وأنه هو الذي رسم لنفسه مكان السقوط.

وما دامت الأعمال البشرية تسير وفق قانون ثابت كقوانين الهندسة مثلا، فيجب ألا يدرس الفيلسوف النفس الإنسانية إلا كما يعالج جمادا. وفي هذا يقول سبينوزا: «إنني سأكتب عن الكائنات البشرية كما لو كان موضوع دراستي خطوطا وسطوحا وأجساما صلبة.» «فلن أسخر ولن أرثي أو أمقت الأعمال البشرية، ولكني أريد أن أفهمها، ولذلك نظرت إلى العواطف ... لا باعتبارها شرورا في الطبيعة البشرية، ولكن بصفتها خواص لازمة لها كما تلازم الحرارة والبرودة والعواصف والرعد وما إليها طبيعة الهواء.»

وهذا الدرس الموضوعي للسلوك الإنساني قد مكن «سبينوزا» من أن يخرج للناس بحثا في الأخلاق لا يكاد يدنو منه كتاب قديم أو حديث. ويقول عنه فرويد العالم السيكولوجي المعاصر: «إنه أكمل دراسة جاء بها فيلسوف أخلاقي في أي عصر من العصور.» (ج)

العقل والأخلاق:

للأخلاق الكاملة أو بعبارة أخرى للمثل الأعلى للأخلاق صور ثلاث: أولها ما دعا إليه بوذا والمسيح، من رحمة ولين، واعتبار الناس جميعا سواسية لا يمتاز رجل عن رجل، وهما يدفعان الشر بالخير، ويوحدان بين الفضيلة والحب، ويميلان في السياسة إلى الديموقراطية المطلقة، وثانيها ما دعا إليه ماكيافيلي ونيتشه، من تحبيذ القوة وعدم المساواة بين الناس، وهما يدعوان إلى القتال، إذ يريان أن فيما فيه من أخطار وانتصار لذة الحياة كلها، وعندهما أن الفضيلة هي القوة، ويناديان في السياسة بتسليم الحكم إلى طبقة أرستقراطية، وثالثها أخلاق سقراط وأفلاطون وأرسطو، الذين ينكرون إمكان تطبيق أحد المثالين السابقين تطبيقا مطلقا عاما، فلا القوة وحدها ولا الرحمة وحدها تستطيع أن تسود، وهم يعتقدون أن العقل المثقف الناضج وحده هو الذي يستطيع أن يحكم - تبعا للظروف المختلفة - متى يجب أن يسود الحب، ومتى ينبغي أن تتحكم القوة، وهم بذلك يوحدون بين الفضيلة والعقل، ويرون أن تكون الحكومة السياسية مزيجا من الأرستقراطية والديمقراطية.

تلك صور ثلاث من الأخلاق المثالية كما رآها الفلاسفة في عصور مختلفة، وقد تناولها سبينوزا فآخى بينها وأدمجها جميعا في وحدة منسجمة، فأنتج للإنسانية نظاما للأخلاق هو أسمى ما سما إليه الفكر الحديث.

Неизвестная страница