وكان من الهين على النصارى أن يطلقوا سراح أبي عبد الله؛ فقد كان فسلا مسلوب القوة، ولكنهم رأوا أنه على ضعفه قد يكون أداة شديدة الخطر في أيدي آخرين، وقد صدقت الحوادث ظنونهم، فإن خضوع أبي عبد الله لفرديناند وبقاءه في قبضته كان من أسباب سقوط دولة المسلمين بالأندلس، وحينما وصل إلى قرطبة استقبله الملكان الكاثوليكيان أحسن استقبال، وما زالا يأخذانه بضروب الإغراء الخبيثة، ويشرحان له سوء أمره، ويظهران له قوة بطشهما وعظمة ملكهما حتى ذل عنقه وأصبح آلة في أيديهما، وخادما لهما أمينا، وبعد أن وثقا منه طلبا إليه أن يعود إلى غرناطة حيث يتحصن أبوه أبو الحسن بقلاع الحمراء، فدخلها أبو عبد الله مؤيدا بأنصاره النازلين منها بربض البيازين،
2
وامتلك حصن القصبة، وشن على أبيه المتحصن قبالته حربا عوانا.
وبقي أبو عبد الله بحصن القصبة مدة تؤيده رماح بني زغبة وسيوفهم، ولكن قوة أبي الحسن كانت فوق قوته، فاضطر إلى أن يلتجئ إلى المرية، ومن ثم أصبح لغرناطة سلطانان: أحدهما أبو عبد الله المنكود الحظ في ميداني السياسة والحروب، البغيض إلى العرب؛ لأنه أصبح أداة في أيدي أعدائهم، والثاني أبو الحسن، أو هو على الأصح أخوه الزغل «الشجاع»؛
3
لأن السلطان كان يقضي بقية أيامه حزينا كئيبا لما أظهره ابنه من العصيان؛ ففقد بصره ثم مات، وأغلب الظن أنه مات مسموما.
أما الزغل: فهو آخر ملك عظيم أنبتته الأندلس؛ فقد كان شجاعا ثابت الرأي، عدوا لدودا شديد المراس قوي العزم في محاربة المسيحيين، ولو لم يفسد عليه ابن أخيه أمره، لبقيت غرناطة في أيدي المسلمين مدة حياته، وإن لم يكن ثمة مفر من انتصار المسيحيين في النهاية، وقد أسرع سلاطين غرناطة بتنازعهم وتكالبهم على الملك بتقريب هذه النهاية، وإذا حكمت الأقدار على ملك بالسقوط أخذت تملي له، وتملأ رأسه بالسخف والغرور.
وهكذا نرى اليوم سلاطين غرناطة وقد استبد بعقولهم الشغف بالانتحار - إن صح أن نسمي تخريبهم بلادهم بأيديهم انتحارا - ففي الحين الذي كان يجب أن يجتمعوا فيه ويتواثقوا لصد المسيحيين، نراهم يبددون قواهم في محاربة بعضهم بعضا، ونرى بعضهم يصد جيش أخيه وهو زاحف على الإسبان ليكون هو وأخوه آخر الأمر طعمة للإسبان، وتفرق أهل غرناطة شيعا، فزاد ذلك في إشعال نار الغيرة والتحاسد بين السلاطين، ولم يكن من شيء أحب إلى الغرناطيين من إسقاط سلطان ونصب آخر مكانه؛ لأنهم قوم متقبلون لا يصبرون على حال، مولعون بالتغيير، سواء أكان للخير أم للشر، وكانوا يبتهجون بالسلطان ويؤيدونه ما دام سعيدا موفقا في حروبه، تعود جيوشه إليهم بالغنائم والأسلاب، فإذا خاب مرة في شيء من هذا أغلقوا أبواب المدينة دونه، ونادوا بحياة السلطان الذي أعدوه لساعته، وقد يكون هذا أبا عبد الله أو الزغل، أو أي رجل أسعده الحظ في هذه اللحظة بالفوز بحبهم الفروك.
وبينما كان أبو عبد الله المشئوم يبذل وسعه في إحباط جهود عمه الزغل الباسل، كان المسيحيون يضيقون الدائرة المحيطة بالمملكة المنكوبة شيئا فشيئا، فأخذت تسقط في أيديهم مدينة بعد أخرى، وتملكوا حصن لورة وغيره من الحصون سنة 1484م/889ه بنسفها بالمدافع التي ابتكرت حديثا، وتبع ذلك في السنة التالية سقوط ذكوان، وقرطمة، ورندة.
وبذل الزغل في هذه الوقائع ما يستطيع من جهد، ووثب على فرسان قلعة رباح من كمين فأثخن فيهم ضربا وطعنا، ومع هذا استمر النصارى في سبيلهم إلى النصر فسقطت لوشة في سنة 1486م/891ه واشترك في معركتها من غزاة الإنجليز اللورد إسكيلز، وكان يقود فرقة من النبالة الإنجليز،
Неизвестная страница