شنها على أمراء الشمال؛ لذلك ازداد تعلق الجيش به، وهوى نجم غالب وأنصاره من المقيمين بالحدود.
ثم مات غالب في إحدى المواقع، وظهر قائد آخر هو جعفر صاحب المسيلة الذي أزعج المنصور بشهرته العظيمة بين جنوده، فدعاه إلى بهو الرياسة وسقاه الخمر حتى غلبه السكر، وحينما عاد إلى داره قتل في الطريق، ولهذه الفعلة الشنيعة التي تدل على غدر المنصور وتلطخ يديه بالدماء أخوات سلبته صفة البطولة بعد أن كان يستحقها بأعماله اللامعة، وجعلت ميل القلوب إليه مستحيلا.
على أن صلابته وإقدامه وصلا بالأندلس إلى قمة من العز والصولة تبعد عن أي خيال، حتى عن خيال الخليفة العظيم عبد الرحمن الناصر، فإن هذا الرجل الذي لا ينال منه التعب ولا يمسه اللغوب شن على إفريقية حربا شعواء، فوسع رقعة الدولة على شواطئ البربر، وغزا نصارى ليون وقشتالة كل عام مرتين، مرة في الربيع وأخرى في الخريف،
12
بينما كان يضغط في قرطبة بيد من حديد على العشائر المتنازعة ويستل شوكتها، وبينما كان يتقرب إلى نفوس الشعب بزيادة المسجد الجامع زيادة فخمة رائعة، حينما شعر بأن الأمة أخذت تغضب للعزلة التي ضربها على خليفتهم الشاب، وتنصت إلى إغراء السيدة «صبح» ورجال القصر الذين سئموا المنصور وحسدوه.
وكان يشرف بعين لا يفر منها شيء على كل قسم من أقسام إدارة الدولة، ويهب كثيرا من وقته لإنماء الأدب وإنهاض الشعر، فقد كان أديبا بطبعه، وكان يأخذ كتبه أينما ذهب بسيفه، ولم تكن كتبه إلا الشعراء الذين كانوا يصاحبونه في غزواته، ولم ينل قائد ما ناله المنصور من الانتصار في كل موقعة؛ فقد قذف نصارى الشمال بالحديد والنار مؤيدا بجنوده الغرباء الأشداء، وبكثير من الجنود المسيحيين الذين جذبتهم إليه كثرة ما يصيبون في ظل قيادته من مغانم.
واستولى على ليون، وأتى على بنيان أسوارها الضخمة وقلاعها من القواعد، وقهر برشلونة، والأدهى والأمر أنه خاطر بنفسه وبجيشه في شعاب غاليسية وجعل كنيسة شنت ياقوب ركاما، تلك الكنيسة الرائعة التي كانت ملتقى الحجاج، والتي كان لها من المنزلة بأوربا ما يقرب من منزلة الكعبة عند المسلمين.
ولم يمس بسوء قبر القديس يعقوب الذي ينسب المسيحيون إلى ما فيه من آثار القديسين كثيرا من الخوارق، ويقال إن الفاتح حينما دخل المدينة بعد أن هجرها أهلها لم يجد بها إلا راهبا جاثيا أمام القبر المقدس، فسأله المنصور: ماذا تعمل هنا؟ فأجاب الراهب الهرم: إني أصلي
13
فامتنع المنصور عن قتله، ووضع حراسا لحمايته وحماية القبر من غضب الجنود الذين انطلقوا يهدمون كل شيء في المدينة.
Неизвестная страница