وقد امتد بين شاطئ النهر جسر فخم به سبع عشرة قنطرة، وهو لا يزال ماثلا إلى اليوم يشهد بمهارة العرب في علوم الهندسة، وكانت المدينة مزدحمة بالدور الفخمة، قيل إنه كان بها أكثر من خمسين ألف قصر للعظماء ورجال الدولة، وأكثر من مائة ألف بيت للعامة، ونحو سبعمائة مسجد، وتسعمائة حمام.
وللحمامات شأن كبير في المدن الإسلامية؛ لأن النظافة عند المسلمين ليست من الإيمان فحسب، بل هي شرط لازم لأداء الصلوات والعبادات عامة، ذلك في حين أن كان مسيحيو العصور الوسطى ينهون عن النظافة ويعدونها من عمل الوثنيين، وكان الرهبان والراهبات يفخرون بقذارتهم حتى إن راهبة دونت ببعض مذكراتها في صلف وعجب أنها إلى سن الستين لم يمس الماء منها إلا أناملها عندما كانت تغمسها في ماء الكنيسة المقدس، نقول: بينما كانت القذارة من مميزات القداسة، كان المسلمون شديدي الحرص على النظافة، لا يجرؤون أن يقفوا لعبادة ربهم إلا إذا كانوا متطهرين، وحينما عادت إسبانيا إلى الحكم المسيحي أمر فيليب الثاني زوج ماري ملكة إنجلترا بهدم كل الحمامات العامة؛ لأنها من آثار المسلمين!
وكان لا يزال للمسجد الجامع المنزلة الأولى بين مباني قرطبة الضخمة الجميلة، فقد أنشأه عبد الرحمن الداخل في سنة 784م/168ه وأنفق في بنائه ثمانين ألف دينار حصل عليها من غنائم القوط، ثم أتم هذا المسجد ابنه التقي هشام في سنة 793م/177ه بما اغتنمه من حروب أربونة، وكان كل أمير بعده يضيف جمالا جديدا إلى هذا المسجد الذي يعد أبدع مثال في العالم للفن الإسلامي في أول عهوده؛ فمن الأمراء من صفح السواري والحيطان بالذهب، ومنهم من أضاف إليه مئذنة، ومنهم من زاد في رقعته ليتسع للعدد الضخم من المصلين، وكان عدد بواكيه
4
تسع عشرة من الشرق إلى الغرب، وإحدى وثلاثين من الشمال إلى الجنوب، وبه واحد وعشرون بابا طليت بالنحاس الأصفر اللماع، وثلاث وتسعون ومائتان وألف سارية، وقد أجريت الفضة
5
في حيطان محرابه المزين بالفسيفساء، وصب في سواريه الذهب الإبريز واللازورد، أما المنبر فقد صنع من العاج ونفيس الخشب، وهو مؤلف من ستة وثلاثين ألف قطعة منفصلة، رصع أكثرها بالأحجار الكريمة وسمر بمسامير من الذهب، وكان يصل الماء من الجبال إلى الينابيع التي أعدت لوضوء المصلين، وكانت هذه الينابيع تقذف بمائها ليلا ونهارا.
وبنيت دور إلى الجانب الغربي من المسجد لنزول فقراء المسافرين وأبناء السبيل، وبالمسجد مئات من الثريات التي صنعت من نحاس أجراس الكنائس للإضاءة ليلا، وكان به شموع ضخمة زنة الواحدة منها خمسون رطلا، كانت تشتعل ليلا ونهارا إلى جانبي الخطيب أو الواعظ في شهر رمضان، وكان بالمسجد ثلاثمائة خادم لإيقاد البخور من العنبر والعود، ولإعداد الزيت العطر لإضاءة عشرة آلاف فتيل للقناديل، وقد بقي كثير من جمال هذا المسجد ماثلا إلى الآن، فإن السائحين يقفون اليوم دهشين أمام هذه الغابة من السواري، فيروعهم فيها منظر لا يكاد ينتهي من كل جانب، ولا تزال سواري الصوان اللامع والرخام المجزع في مواضعها، ولا يزال الزجاج الفاخر الذي استحضره صناع ماهرون من بيزنطة يلمع لمعان الجواهر، ولا يزال المحراب بقبابه المتلاقية يملأ العيون والقلوب، ولا تزال أشجار البرتقال مورقة بصحن الجامع تساير امتداد السواري، فإذا وقف المرء أمام عظمة هذا المسجد وجماله، عادت به الذكرى إلى أيام مجد قرطبة وازدهارها، أيام الخليفة العظيم التي لن تعود.
وأشد بعدا في باب الغرابة مدينة الزهراء - وإن لم تكن أكثر من المسجد حسنا - بناها عبد الرحمن الناصر في أحد أرباض قرطبة؛ لأن إحدى زوجاته - وقد كان مشغوفا بها - تمنت عليه أن يبني لها مدينة باسمها، وكان الخليفة العظيم كغيره من ملوك المسلمين مولعا بالبناء والتجديد فأجاب طلبتها، وأنشأ مدينة في سفح الجبل المسمى بجبل العروس على بضعة أميال من قرطبة
6
Неизвестная страница