وكان من أثر كل هذا أن الخليفة حينما هب يقود جيوشه لمحاربة الولايات الخارجة عليه، رأى أن أكثرها أقرب إلى الخضوع من العصيان، وزاد في حماسة جنوده أن رأوا أميرهم الشاب الشجاع في مقدمتهم، وهو شيء لم يعهدوه من عبد الله جده، فساروا وراءه معجبين مستميتين، وأخذت المدن بالأندلس تفتح للأمير أبوابها واحدة إثر واحدة، فسلمت الولايات التي في جنوب قرطبة أولا، ثم ألقت إشبيلية بقيادها، وأجبر البربر في الغرب على الطاعة، وأسرع أمير الجرف بإرسال الإتاوة، ثم تقدم الأمير لقتال النصارى بمقاطعة ريه (ريو) حيث يسكن منذ ثلاثين عاما رعايا ابن حفصون الشجعان في معاقلهم الجبلية، وكان عبد الرحمن أعرف الناس بأن مثل هذه المعاقل لن ينال بظفر سريع؛ لذلك خطا خطوات متئدة حتى أخضعها لسلطانه، فسلم إليه معقل بعد معقل، بعد ما رأى أعداؤه ما بهرهم من عدله وشرفه، وأنه قد حافظ على معاهدته مع النصارى أكرم محافظة، وأنه أظهر غاية الحلم والصفح لكل من سلموا إليه، ولكن ابن حفصون بقي في معقله متحديا مغالبا كعادته، غير أنه كان قد شاخ فأدركته المنية، وأصبح استيلاء الخليفة على حصن «ببشتر» أمرا هينا موكولا إلى الزمان.
وحينما وقف الأمير على مشارف هذا الحصن المنيع بعد استيلائه عليه، ونظر من بعده الشاهق إلى القمم الشديدة الانحدار التي تحيط به، ثار وجدانه، وغمرته عواطفه، فسجد لله شكرا على هذا الفتح المبين، وبقي مدة إقامته بالحصن صائما، وشمل أعداءه بالصفح والغفران.
ثم ألقت مرسية بالقياد وخضعت للخليفة، أما طليطلة فبقيت على تحديها وعصيانها ورفضت في كبرياء وغرور ما عرضه عليها عبد الرحمن من الهدنة، وانتظرت الحصار بصبر وجلد، ولم يخطر ببال أهل المدينة أنهم منوا بأمير يخالف طابعه من عرفوهم من القواد الضعفاء الذين طالما آبوا بالعار والخيبة أمام حصونها المنيعة.
هجم الخليفة على طليطلة ووقف بجيشه لحصارها، ثم أراد أن يفهم من لم يكن يفهم أن هذا الحصار لم يكن محض تهديد، فأمر أن تبنى مدينة صغيرة فوق الجبل المقابل لها سماها «الفتح» وربض ينتظر عواقب الحصار، فلما اشتد الجوع بالسكان سلمت المدينة ودخلها عبد الرحمن فكانت آخر مدينة دانت له بالطاعة في المملكة التي ورثها من سميه عبد الرحمن الداخل، والتي بلغت الآن في سنة 930م/318ه غاية امتدادها.
وقد اقتضته إعادة ما ضيعه أسلافه من المملكة ثمانية عشر عاما، غير أنه فاز بما أراده وأتمه، وعادت سلطته قوية الدعائم بين العرب والبربر والإسبان والمسلمين والمتسلمين، ومن هذا الحين أبى أن يخص أي حزب من رعيته بميزة أو يرفعه فوق غيره، وشدد الضغط على زعماء العرب، فابتهج الإسبان بإذلالهم، وأصبح الملك اليوم خالصا للخليفة وحده، فحكم مستقل الرأي مستبدا، وقابلت الأمة استبداده بسرور وغبطة بعد عدة سنوات قضتها في الاضطراب والفوضى، وبعد أن استراح الناس من العصابات التي كانت تغير على زروعهم وكرومهم.
وإذا كان الخليفة مستبد السلطان، فإنه لم يتجاوز الحد في استبداده الذي أعاد الناس إلى حياة الأمن والثروة، وأطلق عقالهم لينالوا من الغنى ورغد العيش ما يشتهون على النحو الذي يشتهون.
هوامش
الحرب المقدسة
كان مذهب عبد الرحمن الناصر في نظام الحكم أن يحتفظ لنفسه بالسلطة كاملة، وأن يختار لتصريف أمور الدولة رجالا من صنائعه، الذين رفعهم بعد ضعة، وأعزهم بعد مهانة،
1
Неизвестная страница