وفي هذه الأثناء كان تعصب النصارى بقرطبة قد نضجت ثمرته؛ فقد أغرم قسيس مختبل هو برفكيوس بسب الإسلام، فأخذ وشنق في عيد الفطر حينما كان المسلمون رجالا ونساء يحتفلون بهذا اليوم وينعمون فيه بكل ما يبعث الابتهاج والسرور، وقد زاد شنق هذا القسيس في مرح الحشود التي زحمت الشوارع أو ركبت القوارب في النهر أو لعبت بالسهل الفسيح خارج المدينة.
مات هذا القسيس المسكين شجاعا مرسلا آخر أنفاسه بسب النبي ودينه، محاطا بزحام عظيم من المسلمين الساخرين الشامتين، وجاء أسقف قرطبة ووراءه جيش من القساوسة والمخلصين، فحمل جثته ودفنها مع آثار القديس إسيسكلوس من شهداء ديوكلتيان، وكان برفكيوس واعظا بكنيسته، ثم خلع عليه لقب القديس، وفي مساء ذلك اليوم غرق مسلمان فعد ذلك غضبا من الله لقتل برفكيوس، ومات نصر العبد الأسود في أثناء السنة وكان مشرفا على تنفيذ الإعدام، فزعم المسيحيون في شماتة بأن برفكيوس هو الذي قضى عليه، وأن موته كان انتقاما آخر.
وطلب بعد ذلك بقليل راهب يدعى إسحاق مقابلة القاضي بحجة أنه يريد الدخول في الإسلام فأذن له، وما كاد القاضي ينتهي من شرح مبادئ الإسلام وأصوله حتى انبرى له ذلك الذي جاء ليتسلم، وأخذ يصب على الإسلام أقذر الشتائم والسباب، فلم يكن عجيبا من القاضي - وقد أخذته الدهشة - أن صفعه على قفاه ثم قال: أتعلم أن ديننا يأمر بقتل كل من يجرؤ على أن يقول ما قلت؟! فأجاب الراهب: نعم، أعلم ذلك، فاحكم علي بالقتل فإنني أتشوق إليه، لأنني أعلم أن الله يقول: «ما أسعد الذين يضطهدون في سبيل الحق، إن لهؤلاء مملكة السماء.» حزن القاضي للرجل، وألح على الأمير أن يتجاهل ذنبه فلم يفلح، وقطع رأس إسحاق فأصبح قديسا، وكان المسيحيون عامة ينسبون إليه كثيرا من الخوارق، ويدعون أن هذه الخوارق لم تظهر منذ طفولته فحسب، بل ظهرت من قبل أن يولد!
ثم ظهر بعد ذلك سانشو (شانجة) أحد حراس الأمير، وكان تلميذا ليولوجيوس فسب محمدا وفقد رأسه، وفي يوم الأحد التالي أسرع ستة من الرهبان إلى مجلس القاضي وصاحوا: إن رأينا كرأي أخوينا القديسين إسحاق وسانشو فاقتلنا، ثم أخذوا يسبون محمدا ويصرخون بالقاضي: انتقم لسيدك محمد، وعاملنا بكل ما لديك من وحشية، فقطعت رءوسهم، وتقدم يوم القصاص من هؤلاء ثلاثة من القساوسة أو الرهبان أصيبوا بحمى الانتحار فقدموا أعناقهم إلى الجلاد مغتبطين، وهكذا قتل أحد عشر رجلا في أقل من شهرين في صيف سنة 851م/237ه.
أخذت الدهشة جمهور المسيحيين من تعصب إخوانهم الطائش إذ لم يكن يعرف عن الإسبانيين شيء من هذا التحمس حتى هذا الحين؛ فقد مستهم المسيحية مسا خفيفا، حتى إن الكثير منهم هرعوا إلى الإسلام راغبين راضين، فامتزج الدينان وعاش الفريقان في خلطة وصداقة وحسن معاملة، وأخذ النصارى يبغضون لغتهم اللاتينية القديمة ويصدفون عن آدابها، فتعلموا العربية واستطاعوا بعد حين أن يكتبوا بها كما يكتب العرب أنفسهم، وقد ندد يولوجيوس نفسه بهذه الحال؛ إذ يقول: «إن النصارى يولعون بقصائد الشعر العربي وقصصه، ويهجرون الكتاب المقدس وآثار القديسين، ومما يوجب الحزن والأسى أن الجيل الناشئ لا يعرف غير العربية، فهو يقرأ كتب المسلمين بشغف وينشئ لها الخزائن ويراها جديرة بالإعجاب، في حين أنه يبخل بنظرة إلى كتاب مسيحي.» ثم يقول: «لقد نسي النصارى لغتهم، ومن العسير أن نجد واحدا منهم في كل ألف يكتب حرفا لاتينيا كتابة سائغة، وهم مع هذا يستطيعون أن ينظموا شعرا عربيا رائعا.»
وفي الحق إن النصارى وجدوا في قصص العربية وشعرها متعة ألهتهم عما كتبه آباء الكنيسة، وكانوا يتدرجون إلى الاستعراب ويقتربون من العرب شيئا فشيئا، حتى أصبحوا أعظم مدنية وأتم صقلا وأكثر تهاونا بالفروق الدينية، وكانوا يشكرون للعرب رفقهم بهم وحسن معاملتهم إياهم إلى أن صدمهم العداء الفجائي الذي أظهره إخوانهم المتعصبون، فحاولوا جهدهم صد تلك العاصفة الهوجاء قبل هبوبها، وأخذوا يصارحون إخوانهم بعقم ما يعملون، ويجادلونهم ويذكرونهم بسماحة المسلمين ولينهم، وينبهونهم على ما جاء في الكتاب المقدس من الدعوة إلى الرفق والسلام، فإن من آياته: «لا يدخل الشتامون العيابون مملكة السماء»، ويحدثونهم بأن المسلمين لا يأبهون لمن يقتل من المسيحيين؛ لأنهم يرون أن دينهم لو كان حقا لانتقم الله لشهدائه.
كان هذا رأي جمهور المسيحيين الذين لم تسيطر عليهم وساوس التعصب، والذين لم يروا في الدنيا خيرا من أن يحسنوا إلى جيرانهم وأن يؤدوا صلواتهم في هدوء وسلام، وهؤلاء حاولوا جهد المستميت أن يردوا من جماح المتعصبين فلم يفلحوا، وخافوا مغبة الأمر؛ لأنهم أدركوا أن استمرار الطعن في الإسلام وما يتبعه من عقاب متوال سيؤدي حتما إلى اضطهاد حقيقي للمسيحيين، ولكن يولوجيوس الذي نصب نفسه للرد على كل ما اعترضوا به عليه مستدلين بنصوص الكتاب المقدس وكتاب حياة القديسين - كان يتمنى هذه العاقبة، وكان أمثاله من المتعصبين لا يرغبون في شيء رغبتهم في انتشار اضطهاد المسلمين للنصارى وتأجج ناره، غير أن سلطات الكنيسة أبت أن تسمح باستمرار روح العصيان من غير ردع، وكانت في ذلك متأثرة بالفريق المعتدل وبسماحة الحكم العربي، فاجتمع الأساقفة في مجلس يرأسه أسقف إشبيلية وأصدروا قرارا خطيرا لم يوجهوا فيه نقدا لحوادث الاستشهاد السابقة؛ لأن الكنيسة دونت أسماء أصحابها في سجل الشهداء، ولكنهم أمروا أن يمنع كل شغب من هذا القبيل، وذاع هذا القرار بين الناس، وكان من أثره أن ألقي المتعصبون في غيابات السجون.
وفي هذا الحين، التقى يولوجيوس بفلورا مرة ثانية، ذلك أنها بينما كانت تصلي في الكنيسة بقنوت وخشية إذ رأت إلى جانبها زميلة متعصبة، هي ماري أخت إسحاق الراهب الذي لقي حتفه في طليعة الشهداء، فأخبرتها ماري بشدة رغبتها في اللحاق بأخيها بمملكة السماء، وعزمت فلورا أن ترافقها في هذه الرحلة، فذهبتا إلى القاضي، وبذلتا ما في وسعهما لإثارة غضبه بالإكثار من سب محمد ودينه، وكانتا فتاتين جميلتين تدينان في ورع وإخلاص بالدين الذي يدعو إلى «السلام في الأرض وبذل الخير والمحبة للناس»، وقد وقفتا أمام القاضي وشفاههما تقذف بالحقد والسباب ونعت دينه بأنه من عمل الشيطان، ولكنهما لم تثيرا غضب هذا القاضي الكريم بالسهولة التي ظنتاها؛ فقد مجت نفسه هذا الجنون الخباطي، وكثيرا ما تصامم حينما كان الناس يحاولون قذف أنفسهم إلى الموت، فأشفق على هاتين الفتاتين، وتمنى لو كانتا أقل طيشا وجنونا، وحاول أن يقنعهما بالرجوع عن رأيهما أو أن يتجاهل إقذاعهما، ولكن الفتاتين أصرتا على التمسك بما زعمتاه من بطولة وتضحية، فاضطر إلى إلقائهما في السجن.
وقد أثرت مدة السجن الطويلة في الفتاتين أشد تأثير، فأوشكت أن تخفف من غلوائهما وأن تزحزحهما عن حماستهما القاتلة، لولا اتصالهما بيولوجيوس الذي قواهما وقضى عليهما.
ولقد كان عمله هذا أشق عمل في الحياة، ذلك أنه كان يستحث إلى خشبة الجلاد المرأة التي أحبها وسكنت سويداء قلبه؛ لأنه - على الرغم من كل شعور طبيعي أو إنساني - راض نفسه على إثارة التعصب والنفخ في نار الاستشهاد، وانغمس في هذا العمل المضني المؤلم دون أن يهن أو يضعف لاعتقاده أنه السبيل الحق لنصرة الدين، حتى إنه كتب مقالا رائعا لفلورا يقنعها فيه بجلال الاستشهاد وجماله الروحي، وما كانت فلورا في حاجة إلى إقناع أو تحريض، واستمر ليله ونهاره يقرأ ويكتب ليطرد من قلبه الشعور بالرحمة والحب اللذين كانا يهددان عزيمته بالتردد والخور، ولكنها كانت أثبت من الجبال.
Неизвестная страница