أما وقد نبهتك إلى وجوب التفرقة بين «الناقد» من جهة، و«المعلق الأدبي» و«فيلسوف الجمال» معا من جهة أخرى، وذلك بعد أن أشرت لك (في الفقرة السابقة) إلى الفوارق بين التيارات الرئيسية في النقد: فتيار منها يتخذ النص الأدبي وسيلة إلى دراسة «نفسية»، وتيار ثان يتخذه وسيلة إلى دراسة «اجتماعية»، وتيار ثالث يتخذه وسيلة لإنشاء قطعة «أدبية» أخرى يعبر بها الناقد عن نفسه حين تأثر بالقطعة المنقودة، وبينت لك أن هذه التيارات كلها قاصرة ومقصرة، فهي قاصرة لأنها آثرت مجالا فكريا على مجال الأدب، مع أنها تدعي أنها معنية بالأدب أساسا، وهي مقصرة لأنها نسيت أنه لكي يدرس الناقد شيئا عن «النفس الإنسانية» أو عن «الظروف الاجتماعية» من وراء دراسته للشعر الذي تصدى لدراسته - أو غير الشعر من أجناس الفن - فإنه قبل ذلك كان ينبغي له أن يطمئن أن الذي بين يديه «شعر » حقا، وهو لا يطمئن إلى ذلك إلا إذا انكب على القطعة الأدبية (أو الفنية عموما) في ذاتها انكبابا يحصر نفسه فيها، وكأنها قطعة بغير صاحب، وبغض النظر عن الظروف الاجتماعية التي أحاطت بصاحبها؛ فالذي بين يديه تشكيلة من كلمات (أو من أصوات أو من ألوان إلخ) ركبت على نمط محدد معين، أتاح لها أن تكون جاذبة للنظر خالية للنفس، فماذا في طريقة التركيب قد أدى إلى قيمتها تلك؟ ها هنا ينصب البحث على جزئيات البناء الأدبي (أو الفني) جزئية جزئية، ثم النظر إلى العلاقات التي ربطت لفظا بلفظ وصورة بصورة، وهكذا، فإذا فرغنا من مثل هذه الدراسة التفصيلية للأجزاء وطرائق ارتباطها بعضها ببعض، كانت لدينا فكرة واضحة عن «التكوين» أو «الشكل» (الفورم) كيف قام، فنقيسه إلى فكرة مسبقة في رءوسنا هي التي أسميناها فيما أسلفناه بالقاعدة النظرية عند الناقد، فنرى كم يقترب التركيب الذي أمامنا - أو يبتعد - عما كنا نتوقعه ونريده في البناء الفني.
هذه العملية في تحليل «الشكل» - الذي بنيت عليه المنتجات الأدبية أو الفنية - هي ما وجدتني أشد إيثارا له على سائر الاتجاهات في النقد، وواضح أن دراسة الشكل وطريقة بنائه، اتجاه يجعل الأولوية عند الناقد الأدبي للقطعة الأدبية ذاتها من ناحية، ومن ناحية أخرى هو اتجاه أقرب من سواه في النزعة العلمية القائمة على تحليل موضوعي للعناصر وطريقة اجتماعها أو افتراقها دون أن يتدخل البحث بعاطفة ذاتية تميل به إلى ما يرضيه وجدانا لا ما يرضي «الحق» مجردا عن غواية الوجدان.
3
في آخر الأربعينيات، أو في أول الخمسينيات - لا أذكر على وجه الدقة - دار حوار بيني وبين الدكتور محمد مندور على أساس النقد الأدبي ماذا يكون؟ أيكون للعقل العلمي الموضوعي بأدواته التحليلية أم يترك أمره «للذوق»؟ أخذ مندور بمبدأ «الذوق» وأخذت بمبدأ «العقل»، وكانت مناسبة ذلك الحوار عرضا نشرته عن كتابه العظيم «النقد المنهجي عند العرب»، وبعد أن بنيت مواضع الإجادة في ذلك الكتاب كان لا بد لي من ذكر اختلافي مع مندور في الأساس النظري، ومن الخير هنا أن أورد أطرافا من ذلك الحوار، أوضح بها موقفي في عقلانية النقد وموضوعيته (راجع النص الكامل لذلك الحوار في فصل بعنوان «النقد الأدبي بين الذوق والعقل» في كتابي «قشور ولباب»).
قلت - بعد فراغي من ذكر مواضع الإجادة في كتاب «النقد المنهجي عند العرب» - ما يأتي: «... لا بد لي الآن أن أجادله بعض رأيه، وأول ما أجادله فيه هو هذا الرأي الذي أشفق منه على أوساط القراء أن يضلوا به ضلالا بعيدا، الرأي الذي يجعل «للذوق» الشخصي الكلمة العليا في نقد الفنون، إننا نعيش في بلد لا تضبطه القواعد، ولا تلجمه القوانين، وما أكثر ما يصادفك الفتى لم يكد يشب عن طوقه، فيتغنى لك بشعر زميله في حجرة الدراسة، زاعما لك أنه من غر القصيد! فإذا ما أردت تأديبه فطالبته بالدليل؛ أجابك بأنه يطرب له، وكفاه ذلك دليلا! ولست أذكر في هذا السياق عشرات من أساتذة الأدب عندنا - تأدبا، فماذا لو طلع عليهم أديب نقادة - مثل الدكتور محمد مندور - برأي كهذا، قد يتسرعون في فهمه، فيساعدهم على فوضاهم في الأدب والنقد؟ وأقول: «يتسرعون في فهمه»؛ لأني ألاحظ أن أديبنا الفاضل قد تحفظ بعض الشيء، فاشترط أن يستند «الذوق» إلى «أسباب»، ثم عاد فأكد لقارئه أن النقد المنهجي لا يكون إلا لرجل نما تفكيره، فاستطاع أن يخضع ذوقه لنظر العقل».
لكنني لا أكاد أفهم عنه حين يشترط للذوق «أسبابا» ولا حين يطالبنا بإخضاع الذوق لنظر «العقل»؛ فالأسباب والنظر العقلي لا يكونان إلا في التحليل الموضوعي، فأنت بين أمرين: إما أن يكون الحكم للذوق، وإما أن يكون للعقل بنظره وأسبابه، فأيهما تختار؟ إما أن تجمع بين «الذوق» و«النظر العقلي» و«ذكر الأسباب» في صيغة واحدة، فذلك جمع ينطوي على تناقض صريح، يرفضه المنطق ابتداء، كلا، لست أرى هذا الرأي، وأصر على أن يكون النقد الأدبي قائما على التحليل العقلي؛ أي إنني أصر على أن يكون النقد الأدبي «علما» (راجع مقالة «علمية الدراسة الأدبية» في كتاب «مجتمع جديد أو الكارثة»).
تعريف «العلم» هو منهج البحث، أيا كان «الموضوع» المبحوث بذلك المنهج؛ فقد تصب المنهج العلمي على شعر المتنبي لدراسته واستخراج خصائصه، وقد تصبه على تربة بقعة من الأرض لترى صلاحيتها أو عدم صلاحيتها لزراعة القطن، أو قد تصبه على ضرب من المعادن لتحدده وتحدد خصائصه، فليس العلم علما بموضوعه - إذ تتعدد موضوعاته وتتنوع - ولكنه علم بمنهجه، وعلى هذا الأساس فحين أقول: إن النقد الأدبي «علم» فإنما أريد ألا أفرق في أصول المنهج المتبع في دراسته، والمنهج المتبع في دراسة أي ظاهرة من ظواهر الطبيعة، اللهم إلا فرقا في درجة الدقة الرياضية عند الوصول إلى النتائج، الموقف واحد في كلتا الحالتين: عالم الطبيعة أمامه ظاهرة يريد استخلاص القانون الذي يحكمها، والناقد أمامه ظاهرة في دنيا الفن أو الأدب، يريد استخلاص القاعدة التي تفسرها.
أردت في ردي على الدكتور مندور أن أجعل الأمر واضحا في التفرقة بين أن يكون تقويم الأدب قائما على «ذوق» وأن يكون ذلك التقويم قائما على «عقل» - أعني على «علم»، فبينت في إسهاب كيف يتلقى قارئ ما قطعة أدبية معينة - قصيدة من الشعر أو رواية أو ما شئت من المنتجات في دنيا الإبداع الأدبي - فهو يقرؤها ولا يدري بادئ ذي بدء ماذا يكون وقعها من نفسه، أهو إعجاب بها أم نفور؟ فذلك القارئ - على أي الحالتين - قد يفرغ من القراءة ثم ينصرف عما قرأ، لا يريد أن يعرضه على أحد سواه، وهنا يكون قارئ القطعة الأدبية قد استقبل المادة المقروءة، واستجاب لها بحالة «ذوقية» سواء أكانت تلك الحالة إعجابا أم كانت نفورا، لكن عملية «النقد» الأدبي لا تكون قد نشأت، إنه في مثل هذه الحالة لا «نقد» ولا «ناقد»؛ إذ كل ما هنالك هو قارئ فرغ من قراءته متذوقا لما قرأ بالإيجاب أو بالسلب، لكن افرض أن ذلك القارئ بعد فراغه من قراءته الأولى تلك - التي تأثر فيها بذوقه - قد عن له أن يبحث في القطعة المقروءة عن السر الذي جعلها تؤثر في «ذوقه» بمثل ما فعلت، أليس هو في هذه الحالة يعاود القراءة مرة ثانية - وربما ثالثة أيضا ورابعة - فاحصا ومدققا في الكلمات وطرائق تركيبها معا في جمل وفي صور، بل ربما بلغت به دقة البحث أن يلجأ إلى مراجعة «الحروف» ليرى كم تكرر حرف الراء - مثلا - وكم تكرر حرف الفاء؟ إنه لن يترك وسيلة للبحث الفاحص المدقق إلا لجأ إليها، حتى يعثر على سر الحالة الذوقية التي أحدثتها في نفسه تلك القطعة الأدبية، وبعد أن يبذل في ذلك ما وسعه من جهد وقدرة؛ فالأغلب أن يدونه لنفسه ثم لينشره في الناس، وها هنا يكون «النقد» الأدبي قد ولد وأصبح له وجود، وواضح في جلاء الشمس الساطعة أن عملية النقد هذه لم تكن قد ولدت بالقراءة الأولى، بل جاءت ولادتها نتيجة للقراءة الثانية (أو ما بعد الثانية من قراءات)؛ فالقراءة الأولى خاطبت «الذوق»، ومن ثم كان القبول والرضى أو الرفض والسخط، وأما في القراءة الثانية فقد كان هنالك تحليل وتعليل والتماس للعناصر الداخلة في بناء الجسم الأدبي فرادى ومجتمعة، وهذه كلها ضروب من فاعلية «العقل» ولا دخل فيها للذوق.
الفرق بين الحالتين أوضح من أن نظل نبدي فيه ونعيد، ولكن ما حيلتنا إذا وجدناه لم يزل غامضا حتى عند كبار نقادنا؟ إنه هو الفرق نفسه بين من يرى زهرة تروعه بجمالها، فيتناولها هو نفسه بالتحليل العلمي ليرى كيف نبتت وما خصائص أوراقها وفروعها، في الحالة الأولى كان المعول على «الذوق»، وفي الحالة الثانية كانت الفاعلية تحليلا مرسوما على قواعد البحث العلمي.
وبعد أن عرضت المسألة على هذا النحو في ردي على مندور، مرت فترة لا أذكر كم طالت، وإذا أنا أقرأ له وهو يعيد فكرتي عن «القراءتين»: الأولى للذوق والثانية للنقد، ثم مضت بعد ذلك عجلة الزمان، فإذا بأحد الكتاب يؤلف عن مندور، فيضع له واحدة من مبدعات العبقرية النقدية عنده، فكرة «القراءتين» اللتين تتميز أولاهما من ثانيتهما بأن الأولى للذوق والثانية للنقد.
Неизвестная страница