إن شيئا في تركيبنا الثقافي يوسوس لنا دائما بأن العقل وحده لا يكفي سندا للإنسان في حياته، وأن ظواهر كثيرة تحدث متحدية للعقل أن يفسر حدوثها بمنطق العلم فلا يسع العقل إزاءها إلا أن يقف عاجزا، ومثل هذا الشعور بعجز العقل وقصور العلم يتملكنا بدرجة قل أن وجدت لها نظيرا في شعوب أخرى، وعلى الرغم من يقيني بأهمية الجانب الوجداني في حياتنا، فلطالما أحسست بواجبي في الإعلاء من شأن العقل - والعقل يتبعه قيام العلم ومنهاجه - حتى لو ذهبت في ذلك الإعلاء إلى حد المبالغة لأحدث نوعا من التوازن في حياتنا بين عقل ووجدان؛ إذ التوازن بينهما مفقود.
فكتبت بعنوان «سلطان العقل» (في كتابي «مجتمع جديد أو الكارثة») أقول: إن الظواهر التي يقال عنها: إنها تتحدى العقل، وإن العلم يقف حيالها عاجزا عن القليل، «لم تكن أبدا - ولن تكون - من الدعائم التي تبنى عليها الحضارات، لا فرق في ذلك بين حضارة المسلمين إبان قوتها، وسائر الحضارات التي قامت وسوف تقوم، فلقد قامت حضارة المسلمين - كما قام غيرها - على واقع وعلى علم بذلك الواقع، وأما الظواهر العجيبة التي يقال عنها إنها تتحدى العقل، فهي أمور يذكرها الناس بعضهم لبعض أو لا يذكرونها، ولن يكون لذكرها أو عدم ذكرها أثر في سير الأحداث التي تصنع التاريخ».
إنني لم أكن أقنع بكل ما حدث في حياتنا الفكرية من تغيرات كان من شأنها أن تحدث لنا أسسا جديدة في السياسة والاقتصاد والتعليم وبناء المجتمع؛ وذلك لأنني برغم ذلك كله فلقد رأيتها تغيرات على السطح، ولم تبلغ من العمق حد الثورة الفكرية التي تبذل لنا وجهة النظر الشاملة، فما زال الناس - وحتى المثقفون منهم - تميل بهم نفوسهم نحو التشكك في العقل الإنساني وقدرته، وفي العلم ومداه، فكتبت بعنوان «نريدها ثورة فكرية» (في كتاب «مجتمع جديد أو الكارثة») أقول: «لكنني أزعم أن ذلك النشاط كله شيء - وهو نشاط محمود ومشكور - وأما الثورة الفكرية كما أتصورها فهي شيء آخر، ولأبدأ بتشبيه يوضح الفكرة التي أريد عرضها، فأقول: إنه قد تكون لدينا أنوال قديمة لنسج القماش، فهل تحدث ثورة في صناعة النسيج إذا نحن أبقينا على الأنوال القديمة كما هي، ثم زدنا من كمية القماش المنسوج، وغيرنا من ألوانه وزخارفه، ومن طريقة توزيعه على الناس؟ فمثلا: كان القماش الناتج على تلك الأنوال القديمة يوزع على المدن وحدها، فنشرناه في القرى، وكان يخص الأغنياء وحدهم، فجعلنا منه للفقراء نصيبا مساويا، وكان للكبار وحدهم، فصنعنا منه شيئا للأطفال، وهكذا أقول: أيجوز لنا في مثل هذه الحالة أن نقول: إن ثورة حدثت في صناعة النسيج؟ أم أن الثورة في هذه الصناعة لا تحدث بهذه الأمور وحدها، وإنما تحدث بأن تتغير الأنوال نفسها بما هو أحدث؛ ليتغير نوع القماش الناتج تبعا لذلك؟
هكذا الحال - كما أراها - في حياتنا الفكرية، فلقد زادت حصيلة الفكر، وتنوعت طرائق توزيعها على شرائح الشعب، لكن «أنوال التفكير» باقية معنا على عهدها القديم؛ ولذلك بقيت طبيعة الفكر على حالها لم يغير منها أن تتسع دائرة الإنتاج ودائرة التوزيع، وأن نغير من اتجاه السير، فنذهب بالأفكار من المدينة إلى الريف، أو نأتي بها من الريف إلى المدينة، ونعلو بها من أدنى إلى أعلى، أو نهبط بها من أعلى إلى أدنى، فما دامت «أنوال النسيج» باقية على حالها؛ فقد تحدث تغيرات كثيرة على السطح، ولكنها تغيرات لن تبلغ أن تكون «ثورة» فكرية؛ لأن الثورة هي في أن تتغير الأنوال ...
والمنوال الفكري القديم الذي أعنيه قوامه عناصر كثيرة، لعل أهمها جميعا هو الركون إلى «سلطة» فكرية نستمد منها الأسانيد، ومثل هذه السلطة الفكرية تتمثل عادة في نصوص بعينها محفوظة في الكتب، وإن تكن تتمثل أحيانا كذلك في أقوال يتبادلها الناس، وهي التي تسمى بالعرف أو بالتقاليد، وبناء على هذا الموقف تكون الفكرة التي يقدمها رجل الفكر صوابا إذا هي اتسقت مع ما أقرته السلطة الفكرية في الكتب المحفوظة أو في الأقوال المأثورة، كما تكون الفكرة خطأ إذا جاءت مخالفة لما أقرته تلك السلطة، ومن هنا اشتد سلطان الماضي على الحاضر، وأصبح البرهان الذي لا يرد هو أن نسوق «الشواهد» من سجل الأقدمين، وانحصرت قوة الإبداع الفكري في القدرة على إيجاد السند من القول الموروث ...»
في حياتنا الفكرية والثقافية مفارقة تلفت النظر، كنت ألحظها في وضوح منذ الأربعينيات الأولى، وكنت أدرك ألا مفر من ثورة فكرية تتناول الأسس بالتعيير الشامل إذا أردنا حقا الخروج من عصورنا الوسطى إلى عصر النهضة الحقيقية، ولقد عبرت عن رأيي في تلك المفارقة في عشرات المواضع مما كتبت على طول السنين، والتشبيه الذي تخيلته مصورا للمفارقة التي لحظتها هو ساعة تسير تروسها الداخلية على غير ما تسير عليه عقاربها، أو هو الموسيقى وهي تعزف لحنا فيرقص الراقصون على لحن آخر؛ وذلك لأن سطح الحياة - كما يبدو لأعين المشاهدين - فيه كثير جدا من ظواهر الحياة العصرية: فهنالك المصانع ووسائل النقل والمواصلات والطباعة ونظم الحكم ونظم التعليم وغيرها وغيرها، كلها يجري مع العصر في ظاهره، لكن هذه الظواهر الحضارية العصرية كانت تقضي ضربا من منطق التفكير العقلي يكون مستترا وراءها، فأما ما هو واقع عندنا بالفعل فهو أن تلك الظواهر الحضارية تستتر وراءها أجهزة عقلية تفكر على نمط العصور الوسطى، وعلة ذلك أننا نقلنا عن الغرب كثيرا من ظواهر ثقافته وحضارته، لكننا لم نغير من وجهات النظر الداخلية بما يتناسب مع تلك الظواهر، فكانت المفارقة العجيبة؛ فقد ترى رجلا من رجال العلم في مركز من مراكز البحوث أو في إحدى الجامعات يعرف جيدا ما عليه علمه ذاك في أكثر البلاد تقدما، لكنه إذا ما ترك عمله لينخرط مع سائر الناس في تيار الحياة؛ وجدته يؤمن بالخرافة إيمان من لم يحصل من العلم حرفا واحدا.
والثورة الفكرية التي لا مناص من حدوثها ليعتدل الأمر ويتوازن، هي أن نغير من «المنهج» الذي ننظر به إلى الدنيا من حولنا بحيث يصبح ذلك المنهج متسقا مع السطح الحضاري الذي نقلنا منه جوانب كثيرة عن الغرب.
وشيء كهذا حدث في أوروبا إبان نهضتها، وإلا لما تحققت لها نهضة ؛ إذ غيرت المنهج الفكري المتمثل في المنطق الأرسطي القديم، وقيض الله لأوروبا الحديثة رجالا من رجالها يضعون لها منهجا جديدا يتفق مع الانقلاب العلمي الذي كان وشيك الظهور عندئذ، فكان «ديكارت» وكان «فرنسيس بيكون»، وإذا أردنا نحن الآن نهضة كنهضتهم فلا يكفي أن نقطف ثمارهم ونركبها على جذور عتيقة ، بل لا بد من تغيير الجذور المنهجية؛ لتتجاوب أجزاء الشجرة بعضها مع بعض، وتربط الجذور بالثمار بروابط تجعل الثمار ثابتة من الجذور لا مقحمة عليها قسرا، ومحور التغيير المطلوب هو أن نستبدل بفكر يحبس نفسه في مقدمات موروثة فكرا جديدا يقيم نتائجه على قراءة الطبيعة ذاتها.
ففي ختام الفصل المعنون «تحولات في المناخ الفكري» (في كتابي «هذا العصر وثقافته») قلت: «... وعقيدتي أن ثورة فكرية كهذه لم تحدث لنا من خلال هذا القرن كله برغم التغيرات الكثيرة والهامة التي طرأت على صورة الحياة؛ وذلك لأن النمط الفكري القديم باق كما كان دائما، والعجيب الذي يلفت النظر هو أن الفجوة الكائنة بين ذلك النمط الفكري من جهة وتفصيلات الحياة الجديدة من جهة أخرى لا تحدث فينا شيئا من القلق أو التوتر الذي لو حدث؛ لحفزنا إلى سد الفجوة بالملاءمة بين المبادئ العامة وتفصيلات الحياة العملية.»
3
Неизвестная страница