وكأنما أراد لي الله أن تكون بين يدي الأداة التي أستطيع بها أن أعبر ما بقي أمامي من مرحلة التحول إلى المرحلة التي تليها، والتي استقر عليها الفكر عشرين عاما (1950-1970م) وهي التي أشرت إليها فيما أسلفته، قائلا: إنني سرت خلالها على خطين متوازيين: أحدهما الدعوة إلى ثقافة العصر، والآخر الدعوة إلى منهج التجريبية العلمية في صياغة الأفكار. أقول: بإذن مشيئة الله كأنما أرادت أن تضع بين يدي الأداة التي أستعين بها على الانتقال من مرحلة إلى مرحلة؛ وذلك أن لجنة التأليف والترجمة والنشر قد أوكلت إلي - باعتباري عضوا فيها - الإشراف على مجلة الثقافة التي كانت تصدرها، فكانت لي فرصة الكتابة الأسبوعية؛ لأفتتح كل عدد منها بمقالة، فماذا كنت أكتب أسبوعا بعد أسبوع؟ كنت أكتب ما يصح أن أطلق عليه اسم القنابل المتفجرة، لعلها تنسف جزءا من ألف جزء في الإطار الثقافي العتيق الذي كنا ما نزال نعيش فيه، برغم فترة من الاتصال بحضارة الغرب امتدت بنا - حتى ذلك الحين - مائة وخمسين عاما، وبرغم زيادة أعداد المتعلمين إلى أعلى مستويات التعليم، فذلك كله لم يزحزح إلا قليلا مجموعة من القيم ذهب زمانها، وأبشعها قيمة السلطة لمن يتولاها. ولقد جمعت مجموعة المقالات التي كتبتها على مدى ثلاثة أعوام أو ما يقرب منها في كتابين: أولهما كتاب «شروق من الغرب» واسمه هذا دال على روح محتواه، والثاني كتاب أسميته (في طبعته الأولى) «والثورة على الأبواب»، وقصدت بذلك أن تلك الأفكار الغاضبة الساخرة الثائرة إنما نشرت كلها قبيل قيام الثورة في يوليو 1952م، لكنني لحظت فيما بعد أن حرف الواو الذي يبدأ به العنوان، كثيرا ما يسقط عند المتكلم أو الكاتب، فيصبح العنوان دالا على شيء آخر غير مقصود، فجعلت عنوان الكتاب في الطبعة الثانية «الكوميديا الأرضية»، وربما جاء هذا العنوان أكثر دلالة على روح مضمونه الفكري.
الفصل الثالث
دعوة إلى ثقافة العصر
1
أبدأ حديثي عن هذه المرحلة في مسيرة العقل الذي أروي قصة تطوره باعتراف أعترف به عن نفسي في ذلك الحين - أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات - بأنني حين دعوت إلى الأخذ بثقافة الغرب - والغرب هو «العصر» لأنه هو صانع حضارة عصرنا - كنت في تلك الدعوة على كثير من التطرف؛ لأنني عندئذ نظرت إلى الأمر من جانب واحد، هو جانب «العصرية» التي لا بد منها في إنسان اليوم، لكنني أهملت الجانب الآخر الذي لا بد منه كذلك حفاظا من أي إنسان معاصر على هويته الخاصة التي صنعها تاريخه، فجاءت نظرتي إلى «الثقافة» المنشودة نظرة مبتورة تثبت جانبا وتهمل جانبا آخر، ولم أصحح هذا الخطأ إلا في أول السبعينيات، كما سأروي في المكان المناسب من هذا الكتاب.
لكنني الآن مقيد بتصور المرحلة الفكرية التي اجتزتها في الفترة المشار إليها ، وهي أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، أو قل: إلى آخر الخمسينيات، فعندئذ تصورت أمامي صورتين: إحداهما الصورة الحضارية التي رأيتها في أوروبا، وأوروبا - كما قلت - هي في عيني إذ ذاك هي «العصر»، وأما الصورة الأخرى فهي ما عرفته عن بني وطني، فكما يتمنى الوالد لولده الكمال، ويؤذيه غاية الإيذاء أن يلمح فيه شيئا من النقص حتى ولو كان تافها يسيرا، وربما ضربه وأغلظ له في التأنيب بسبب حبه له، فكذلك أقول عن نفسي فيما تصورته وصورته عن مصر في ذلك الحين، والحق أني في تصوير النقص الذي تخيلت وجوده في حياتنا ورأيت ضرورة التخلص منه لم أعمد في ذلك إلى تحليل علمي، بل كنت في أكثر الحالات ألجأ إلى التصوير الأدبي، ولا بد لي هنا من لفت الأنظار إلى الفارق الكبير بين الطريقتين في الكتابة عن موضوع بذاته: الطريقة التي يجوز لنا تسميتها بالطريقة العلمية، والتي تتناول الموضوع تناولا مباشرا بالتحليل والمعالجة، وأما الأخرى فهي طريقة التصوير الأدبي، والشرط الذي لا بد من توافره هنا هو أن تعرض الفكرة المقصودة عرضا غير مباشر، وذلك بأن يقيم الكاتب شكلا ما يجسد به فكرته تجسيدا من شأنه أن يجعلها أرسخ أثرا في نفس القارئ.
لجأت فيما كتبته عن الحالة كما تصورتها في مصر إلى الضرب الثاني؛ أعني إلى التصوير الأدبي، فليس أمامي الآن إلا أن أعرض على القارئ نماذج من ذلك التصوير.
لقد رأيت في حياتنا كثيرا من الظلم والقهر والاستبداد والتسلط والتنافر والكراهية، مما أدى في نهاية الأمر إلى فقدان الفرد لكرامته وحريته واستقلاله، فصورت ذلك بقلم المؤمن بأنه لا أمل في خلق مجتمع جديد إلا إذا سلمت وحداته البشرية أولا وقوي بنيانها، ففي مقالة عنوانها «الكوميديا الأرضية» قلت:
يحكى أن شاعرا كان اسمه «دانتي»، عاش في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، قد كتب قصيدة طويلة عظيمة، أسماها له الناس من بعده «الكوميديا الإلهية»، طاف فيها بصحبة أستاذ له قديم من الشعراء الأولين هو «فيرجيل»، طاف بالجحيم فوصف من شهده فيها من الآثمين، وما شهده منصبا عليهم هناك من عذاب أليم.
ثم شاء الله - ولا راد لمشيئة الله إذا شاء - أن يبعث «دانتي» حيا شاعرا كما كان، وأن يبعث معه «فيرجيل» دليلا هاديا كما كان أيضا، وعادت لدانتي شهرته القديمة في وصف الأهوال، فكان أن زار بلدا يقال عنه إنه بلد العجائب، حتى إذا ما رجع إلى بلاده عمد توا إلى ما كان قد كتبه في حياته الأولى، وأدخل عليه تغييرا وتحويرا يناسب العصر الحديث، مستفيدا مما علمته التجربة في بلد العجائب، وإدراكا منه بأن الشاعر الحق لا مندوحة له عن مسايرة الزمن، لكنه هذه المرة أطلق العنوان بنفسه على قصيدته، ولم يترك ذلك للأجيال القادمة كما قد فعل أول مرة، فاختار عبارة «الكوميديا الأرضية» عنوانا لقصيدته الجديدة.
Неизвестная страница