فأجابها أبوها: إن الحرب رجس من عمل الشيطان. - ومن سيغلب؟ - بالطبع سيغلب الروسيون؛ لأن العدو مهما كان قويا لا يستطيع التغلب عليهم، وإنما الروسيون يستطيعون التغلب على بعضهم فقط.
ودام القتال إلى نصف الليل، ولم يستطع الروسيون الثبات أمام العدو؛ فانسحبوا وحل العدو محلهم.
خرج دافيد من حفرته ورأى بيوتا عديدة قد تهدمت وغيرها احترقت، وأذرف الأهالي دموعا سخينة على ما حل بهم من الويلات والخسائر، وقد سلم منزل دافيد فدخله مع ابنته وخادمته وشكر الله على السلامة، ثم ذهب كل واحد إلى مضجعه واستغرق في النوم.
وفيما كانت ليا نائمة سمعت طرقا على نافذة غرفتها المطلة على الحديقة، فأيقظت والدها ونبهته إلى الطرق على النافذة، فسمع بنفسه طرقا خفيفا وصوت ملتمس يرجو فتح الباب، وسمع أيضا أنين الطارق.
فخرج دافيد بنفسه في الظلام وكانت أصوات عجلات العربات وزئاط الناس وضوضاؤهم وصهيل الخيل ما زالت مسموعة، ووجد تحت النافذة رجلا جرحت يده وكتفه، وقد لطخ الدم الأسود ثيابه، فحمل دافيد الجريح إلى داخل منزله ورأى على النور أنه ضابط شاب.
فأسرعت ليا وسقت الضيف ماء وضمدت بيديها الرخصتين جراحه وربطتها بلفائف نظيفة، وعلمت منه أن فرقته تركته جريحا ولم تحمله معها.
ولما شبع الجريح وعاد إليه شعوره أراد دافيد أن يوصله إلى العمدة، وشعرت ليا بعزم والدها، فقالت له: أتريد يا والدي أن تسلمه إلى البولونيين، إن هذا أمر غير مستحسن؛ لأنهم يسلمونه للعدو بلا ريب حيث يلبث أسيرا عدة سنين، إن الله قاده إلى عتبة بابنا في هذه الليلة الرهيبة فدعنا نخفه، وأنا أتولى معالجته بنفسي، وإني لواثقة بأن فرقته ستمر من هنا ثانية وتأخذه معها، ونحن بذلك ننقذه من عذاب الأسر. إن الله يساعدنا وأمه لا تذرف الدمع على ابنها، وتراءى للشيخ دافيد أن ابنته تتكلم بلسان أمها دورا من السماء فأصغى إلى كلامها، ونزل على إرادتها، ثم إن دافيد وليا قادا الجريح إيفان (اسم الضابط) المسيحي إلى فراش وثير وما كاد يضطجع عليه حتى استغرق في نومه الهنيء.
بقي الجريح إيفان مدة أسبوعين كاملين في منزل دافيد ليزمان أخذت جروحه بعدهما تندمل وتتماثل للشفاء، وكانت ليا تعتني به وبطعامه، ولم يعلم أحد في الوجود عما فعله دافيد الذي يعلم حق العلم بأنه لو علم العدو بأنه أخفى ضابطا روسيا لقطعوا رأسه لا محالة، ولذا داوم على الصلاة إلى الله لينقذه من هذه المحنة.
وكان يحضر كثيرون من الجنود إلى منزل دافيد ولم يجرؤ أحد منهم على إهانته أو إهانة ابنته، ولم يكتشفوا مخبأ الجريح.
وأما العدو فإنه لم يقترب من وارسو بل انقلب راجعا إلى الوراء ودخلها الروسيون، وكان الضابط إيفان قد شفي، فشكر دافيد وقبله قبلة الند للند، وعرض عليه مبلغا من المال رفضه بإباء وشمم؛ علما منه أنه صنع ما صنع إجابة لطلب ابنته وزوجه دورا الموجودة في السماء.
Неизвестная страница