يعتبر كاراجيالي الأديب المسرحي والقصاص - الكاتب الواقعي - الروماني الكبير في القرن التاسع عشر، وبحكم مولده في أسرة من الممثلين عرف البيئات الحضرية معرفة رائعة، وصور حياة وأخلاق سكان المدن على نحو لا يجارى، ويعتبر مسرحه «ليلة عاصفة - الخطاب المفقود - السيد ليونيدا مشتبكا مع الرجعية - مشاهد من المرجان - كارثة» ألذع هجاء وأصدقه لأخلاق المجتمع البورجوازي الإقطاعي في نهاية القرن الماضي، وفي صوره القلمية «الثعلب - العدالة - صاحب الضيعة الروماني - مكافأة التضحيات الوطنية - تمبورا - الصديق فلان - الساعة الخامسة - السيد جوان - زيارة - سلسلة التهاون - استطلاع - س. ف. ر ...» إلخ، وكذلك في قصصه وأقاصيصه «نصيبان كبيران - شمعة عيد الفصح - خطيئة - في زمن الحرب - في فندق مانيوالا - كير إيانيوليا ...» إلخ يضيف كاراجيالي إلى روحه النقدية مواهبه الكبيرة كقصاص يستلهم الفولكلور، أو يستوحي الخوارق، وبحكم طبيعته الجدلية لم يتردد في أن يشهر سنة 1907 في منشور سياسي سماه: «من الربيع إلى الخريف» بحركة قمع ثورات الفلاحين في ذلك العام، وتنكرت له سلطات ذلك العهد وشنعت عليه، فاعتزل في برلين في آخر حياته حيث توفي سنة 1912 وهو في الستين من عمره.
ومع ذلك بعث إنتاجه إلى الخلود، وهو اليوم في مكان الصدارة في الأدب الروماني ومن أمجاده.
ومن باريس إلى هلسنكي، ومن لندن إلى سانتياجو، ومن موسكو إلى القاهرة طافت مسرحية «الخطاب المفقود» أرجاء العالم مؤيدة مكانة كاراجيالي كأحد كبار كتاب المسرح في عصرنا الحديث. (1) في فندق مانيوالا
في ربع ساعة تصل إلى فندق مانيوالا، ومنه إلى قرية بوتستي العليا من ضواحي بوخارست، خمسة فراسخ يستطيع الحصان أن يقطعها في ساعة ونصف إذا سار خببا دون عدو، وهي رحلة يتحملها الحصان الصغير إذا زود بالشوفان، ومنح ثلاثة أرباع الساعة راحة في الفندق، ومعنى ذلك أن ربع ساعة وثلاثة أرباع ساعة - أي ساعة كاملة - يجب أن تضاف إلى الساعة والنصف التي تستغرقها الرحلة إلى بوتستي، فيكون الزمن كله ساعتين ونصف، ولما كانت الساعة الآن السابعة، فإنني في الساعة العاشرة على أكبر تقدير سأكون عند الحكمدار إيوداكي، ولقد تأخر قليلا وكان يجب أن أرحل قبل الآن، ولكن لا بأس فسينتظر على أية حال.
وبينما كانت تراودني تلك الخواطر، رأيت عن بعد وعلى مسافة طلقة نار أضواء كثيرة في فندق مانيوالا - وكان هذا لا يزال اسمها - بالرغم من أن الرجل قد مات منذ خمس سنوات، وأرملته هي التي تدير الفندق.
يا لها من سيدة قادرة أرملة مانيوالا! فلقد قادت الزورق؛ وذلك لأن الفندق كان في حياة زوجها على وشك أن يباع.
وأما الآن ... فالديون قد سددت، والبناء قد جدد، وبنيت حظيرة من الحجر، وجميع الناس يؤكدون أن لديها مالا غير قليل، بعضهم يزعم أنها قد وجدت كنزا، وآخرون يتهمونها بالسحر، وفي ذات يوم جاء اللصوص لينهبوا المنزل، وحاولوا أن يكسروا الباب، فرفع البلطة أحدهم - وكان أقواهم، شحط في قوة الثور - وأخذ يضرب الباب بكل قواه، ولكنه خر على الأرض ورفعوه ميتا، وحاول أخوه أن يتكلم ولكنه لم يستطع فقد أصبح أبكما! وكانوا أربعة ... ووضع الاثنان الآخران الميت على ظهر أخيه، وحملا قدميه لكي يدفنوه في مكان بعيد، وأثناء خروجهم من الفندق أخذت السيدة مانيوالا تصيح من النافذة قائلة: اللص! وفجأة ظهر ضابط الشرطة ورجاله أمام اللصوص، وكانوا أربعة من الخيالة الذين تابعوا هؤلاء اللصوص، وأخذ الشاويش يصيح: «من السائر هناك؟!» وهرب اثنان من اللصوص ولم يبق إلا الأبكم وأخوه الميت على كتفيه، ولم يكن التحقيق سهلا فجميع الناس يعلمون أن الرجل لم يكن أبكما، وقد ظنوا أنه يتصنع البكم، فأخذوا يضربونه لكي يسترد صوته، ولكن عبثا، ومنذ ذلك اليوم لم يجرؤ أحد على أن يفكر في سرقة الفندق.
ولم أكد أحرك كل هذه الذكريات في نفسي حتى كنت قد وصلت؛ حيث رأيت في فناء الفندق عددا كبيرا من العربات الواقفة، بعضها محمل بألواح الخشب التي ستنحدر بها في السهل، وبعضها الآخر محمل بأكياس الذرة التي صعدت بها من الوادي، وكنا في إحدى أمسيات الخريف والهواء منعش، وسائقو العربات يتدفئون إلى جوار النار، تلك النار التي لمحتها عن بعد، وقاد سائس حصاني إلى الحظيرة لكي يعطيه حقه من الشوفان، ودخلت الفندق حيث كان جمع كثير من الناس يشربون ويغنون، بينما جلس اثنان من الغجر وسنانين في ركن؛ أحدهما يغمز قيثارته، والآخر جيتاره على طريقة مقاطعة أولتينا، وكنت جائعا ومقرورا، وقد نفذت الرطوبة إلى عظامي.
فسألت خادم المقصف: «أين المديرة؟» - عند الفرن. - لا بد أنها أكثر دفئا هناك.
وعبرت ممرا تاركا ردهة الفندق لكي أذهب إلى المطبخ، وكان مطبخا بالغ النظافة، ووسط عطن المعاطف المصنوعة من جلود الغنم والأحذية الخشبية والأخفاف الجلدية المبللة كانت تتصاعد مشهية رائحة الخبز الساخن.
Неизвестная страница