وزفت أختها، وانتقلت إلى بيت زوجها وعاد خالها إلى الإسكندرية وبقيت هي مع أمها، وقد أحاط بها سكون الريف.
ولاحظت الأم وجومها، وطول تفكيرها، بما لا يتفق مع شبابها، وما عرفته عنها في صباها من دوام ابتسامها وحلو مرحها. فلم تعر ما لاحظته من ذلك أول الأمر بالا، إذ خيل إليها أن انتقال الفتاة من المدينة إلى الريف، ومن حياة الإسكندرية الصاخبة إلى حياتهم الرتيبة المتشابهة هو سبب وجومها، ولكن هذا الظن أخذ يتبدد حين رأت زهرة تنخرط في البكاء كلما خلت إلى نفسها. فإذا رأتها مقبلة عليها حاولت تجفيف دمعها.
فلما طال بالأم ما ترى من ذلك، نازعتها الوساوس.
وأخيرا ذهبت إلى ابنتها، وجلست إلى جوارها، وقالت لها في حنان وعطف: خبريني يا ابنتي ... ما بك؟ إنني أراك منذ جئت من الإسكندرية مهمومة كثيرة البكاء، وأرى ذلك كله يعبث بنضرة شبابك، أفتضيقين بحياة القرية معي إلى هذا الحد؟ ألست أنا أمك التي تحبك حتى لتؤثرك على نفسها؟ وهل تخفي بنت سرها على أمها؟!
لم تجد زهرة ما تجيب به على أسئلة أمها إلا أن انخرطت في بكاء مرير يمس قلب الأم إلى شغافه، وكأنما كشف عن بصيرتها في هذه اللحظة، فنظرت إلى ابنتها وجلة وقالت: هل خدعك يا ابنتي في الإسكندرية أحد؟ قولي ... لا تخافي! إن سرك من صدر أمك في بئر سحيقة فلن يطلع عليه أحد! أنت ابنتي وضناي، فما يسوؤك يسوؤني، وما يحزنك يحزنني. فقولي ... ولا تخافي!
وبعد تردد طويل، وبكاء مر، قصت زهرة على أمها قصتها مع أسعد، وكيف وعدها بالزواج، وكيف خانها بعد أن عرف حملها، وجرى وراء فتاة غنية من بنات الإسكندرية!
وارتاعت الأم لما سمعت، وتمنت لو انشقت الأرض فابتلعتها وابتلعت ابنتها معها، فطوت سر الآثمة المسكينة في جوفها! فلما أفاقت من روعها، أخذت تفكر في الأمر، وكيف السبيل إلى الخلاص منه؟
لو أن لزهرة أبا أو أخا، لكان مصيرها أغلب الأمر أن تقتل وتدفن ليدفن معها عارها.
لكنها أم، ولا يطيق قلبها أن تتصور فتاتها مقتولة أمامها. وهي إلى ذلك امرأة شريفة من بنات الأعيان، فلا تستطيع أن تتصور العار يلطخ اسم أسرتها. لا بد إذن من أن يدفن السر فلا يقف عليه أحد، ولا يتحدث عنه أحد. والجنين المستكن في بطن ابنتها هو آية هذا السر، فإذا أمكن التخلص منه، من غير أن يعرف أحد أمره، رضيت أمومتها ورضيت - إلى حد ما - كرامتها، وأمكن أن تعيش هي، وأن تعيش ابنتها وكأن شيئا لم يكن، لأن أحدا لم يعرف السر!
وكانت تعرف قابلة في قرية قريبة، لها بمثل هذه الأمور خبرة. وكانت تعلم منها أن الوسيلة لإجهاض الحامل، أن توضع الرحى على بطنها، وأن تدار حتى ينزل الجنين. تلك طريقة قاسية، بل وحشية. وقد تودي بحياة الحامل قبل أن تتخلص من جنينها ... ولكن؟!
Неизвестная страница