قص علي هذا القصص صديق كريم، كان حاضرا لتلك المحاكمة، وهو لا يزال يذكرها، وفي نبرات صوته أسى على الذين أعدموا بشهادة الثري الوجيه شاهد الملك، وإن كان يرى أن ما أصابه وأصاب أبناءه، كان من عدل الله!
لله في خلقه شئون
كان الدكتور مروزق جراحا ماهرا، ولم يكن ذلك عجبا. وقد كان واسع الاطلاع على كل ما يظهر في فنه، حريصا حين اصطيافه في أوروبا على أن يحضر «عمليات» كبار الجراحين فيها، برغم أنه قضى في مهنته أكثر من عشر سنوات، بعد أن حصل على درجة الزمالة من كلية الجراحين الملكية بإنجلترا.
وبلغ من نجاحه أن استأجر مستشفى خاصا، جهزه بأحدث المعدات، وهيأ فيه لمرضاه أدق العناية، وجعل منه مستشفى نموذجيا، وإن لم يكن مستشفى كبيرا.
وكان ارتياد الحفلات الخيرية بعض هوايته في أوقات فراغه، فإذا ذهب إلى حفلة منها أنفق في ابتياع الأزهار التي تقدمها بعض الفتيات، والمعروضات التي تقف عندها بعض الشابات، قدرا غير قليل من ماله. واستبدت به هذه الهواية حين بدأ يفكر في الزواج، فهو يعلم أن كثيرا من بنات البيوتات الكريمة، يتبرعن ببيع الأزهار أو المعروضات، وأن اختيار إحداهن يجعل الزواج منها عن بينة؛ إذ يتيح له فرصة محادثتها، والتعرف إليها، ومعرفة ذوقها ومزاجها. وهو مع ذلك لم يكن متعجلا، لأنه كان حريصا على أن تطمئن له الفتاة التي يختارها، حرصه على اطمئنانه إليها.
وفي حفلة من هذه الحفلات ، وقف عند شابة تعرض أعمال الجمعية التي أقامت الحفل، وأخذ يقلب ما تعرض، ويتحدث إليها.
وقد علم أنها ابنة طبيب للأمراض الباطنية، توفي منذ سنين، وأنها تعيش مع أمها وأخيها الذي يكبرها سنوات قليلة.
وقد أعجبه حديثها، وأعجبته رزانتها، وثقافتها، وإتقانها اللغتين الفرنسية والإنجليزية. كما أعجبه منها أنها فارعة القوام، يبدو في نظراتها الحزم، وصلابة الرأي، مع حلاوة في الابتسام، تخفف من شدة هذه الصلابة وهذا الحزم.
وعاد الدكتور مرزوق في الغداة إلى هذه الحفلة، ووقف يحادث الشابة يريد أن يقف على اتجاه تفكيرها وميولها، حتى يحكم فيما بينه وبين نفسه: أتصلح له ويصلح هو زوجا لها؟ ولم تفطن الفتاة بطبيعة الحال إلى شيء من هذا، ولذلك كانت تحدثه على سجيتها في غير احتياط ولا حذر. وكان هو يسترسل في الحديث معها، ثم يقلب بين حين وحين ما تعرضه، حتى لا يلحظ أحد طول حديثه معها.
وكانت «سوسن» في الثامنة عشرة من سنها، وإن بدا عليها - لوفاء جسمها - أنها تخطت العشرين. وكانت لذلك تخاطب الدكتور مرزوق وكأنها تخاطب أباها، فلا يدور قط بخاطرها أنه يفكر في خطبتها أو التزوج منها. أليس يذكر أن أباها كان صديقه، ويبدو على ملامحه أنه في سن كسن أبيها يوم توفي من سنين وهو في عنفوان فتوته؟ لذلك كانت تطيل الحديث، وتبتسم في براءة كأنها براءة الطفولة. وكانت تغتبط حين يبتاع محدثها شيئا من المعروضات التي عهد إليها في تصريفها، اقتناعا منها بأن ذلك يزيدها قدرا في نظر رئيسة الجمعية، صاحبة الحفلة.
Неизвестная страница