قاعدة مختصرة في طريق الققر على منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر
الحمد لله الذي اختار من خلقه صفوة أرادهم لقربه فأرادوه وأحبهم فأحبوه، فقهروا بذلك النور وساوس النفس ورعوناتها، ونزغات الشياطين وإراداتها.
أقامهم بين يديه في مقام العبودية، وصفهم في مصاف الخدمة، فهم بين يديه أبدا يتنعمون بأنوار مشاهدته، ووظائف خدمته، يعبدونه كأنهم يرونه، ويتلون كلامه كأنهم يسمعون منه، ويقتفون آثار نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، ويعكفون على استماع سنته بقلوب حاضرة، وأسماع واعية، ويستعينون بمولاهم على القيام بمأمورات ربهم، والانتهاء بمناهيه.
فلم تزل هذه طريقة تسير بهم، وكان منتهاها أن طهر الله عز وجل فيها بواطنهم عن المحرمات والمكروهات، وكساهم كسوة اتباع المأمورات والطاعات، وكاشف أسرارهم بحقائق المشاهدات.
Страница 23
وكان شيخهم في هذه الطريقة وإمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم بالرحمة العامة، والكتاب المنزل، الذي فيه موعظة من ربهم وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين فسبحان من وفقهم بفضله لتحقيق المحاسبة في ظواهرهم، وإتقان المراقبة في بواطنهم، فصفاهم له باطنا وظاهرا، فصلحوا لقربه، ومناجاة حضرته : (أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون).
وصلوات الله على نبي الهدى وإمام التقى محمد النبي الأمي وآله، وسلم تسليما كثيرا.
وبعد: فإن بعض الإخوان التمس أن أعلق له قاعدة مختصرة في طريق الفقر المحمدي، فأقررت له بقصر العبارة، وقلة البضاعة.
ثم رأيت المسارعة إلى إجابة سؤاله على قدر الإمكان أولى، وبالله المستعان.
اعلم - أيها الأخ وفقنا الله وإياك - أنك إن أردت الفقر المحمدي الصحيح، الذي له أصل ثابت، وفرع شامخ، فعليك بالفقر المحمدي، فإنه مأخوذ من رأس العين، وإياك أن تأخذ الفقر من أسفل، وتترك الشرب من رأس العين، وتشرب من المياه البعيدة عن منبوعها ، التي قد خالطها السباخ المالحة، واصفرت ألوانها لبعد مائها عن منبوعها، فصارت مغايرة للون المنبوع، منحرفة عن سواء السبيل - وأنت تفهم هذا الرمز، لأني شرحته لك مشافهة -.
Страница 24
فإن أنت سلكت طريقة الفقر المحمدي رجوت أن تلتحق بالسابقين الأولين، أصحاب نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، فتحشر يوم القيامة معهم ومعه، تحت سنجقه ولوائه، إذا حشر الفقراء تحت سناجق شيوخهم، فتحشر أنت تحت سنجق نبيك وشيخك محمد صلى الله عليه وسلم.
فعليك بهذه الطريق لا تخرج عنها، وانصح بها من أحببته من إخوانك ليعملوا بها، فإني أرجو بذلك أن تلتحقوا جميعا بشيخكم ونبيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن الفقر المحمدي لا يتسع لكمال شرحه مجلدات، لكني أشرح لك في هذه القاعدة أصوله، فمن وقع على الأصول يرجى له الصعود - بعون الله - إلى الفروع، وبالله التوفيق.
الفصل الأول
من الطريقة أن يشتغل قلبك بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتتخذه شيخا وإماما، وتعتقد محبته، والانجماع بشؤونك عليه، دون كل أحد، وتكثر الصلاة عليه، وتكون منزلته من قلبك منزلة المشايخ من قلوب الفقراء، ألا تراهم أنهم إذا ذكر شيخ أحدهم يهتز ويضطرب، وذلك لعظمته في قلبه، ومنزلته منه.
فاجعل أنت نبيك محمدا صلى الله عليه وسلم في قلبك كذلك، بحيث تملك محبته قلبك، ويصير تمثاله بين عيني فؤادك دائما، إذا ذكر تجد لذة ذكره وتعظيمه في قلبك، بخلاف ذكر كل أحد.
فإذا توجهت إليه بهذه الصورة، وأكثرت من الصلاة عليه،
Страница 25
فواظب المواعيد التي تتلى فيها سنته، وأخباره، وسيرته، ومعجزاته وكراماته، كلما سمعت معجزة من معجزاته، مثل انشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه، حتى توضأ منه الجيش كلهم، ومثل حنين الجذع إليه، وإطعام النفر الكثير بالطعام القليل، ومثل ما فعل بقتادة بن النعمان حين انقلعت عينه حتى سالت، فردها صلى الله عليه وسلم حتى عادت كما كانت، ومثل اشتكاء البعير إليه، ومثل انفتاق عين تبوك ببركته بعد أن كانت كالشراك ، وغير ذلك من المعجزات.
فكلما سمعت حديثا من أحاديثه، أو معجزة من معجزاته، تبقى كأنك تراه بعين قلبك، فيزداد حبك له، وتعظيمك إياه، واتباعك لهديه وطريقته، فتصير بذلك من أتباعه حقيقة، حيث ترى الناس أتباع زيد وعمرو ، وكذلك كلما سمعت حديثا مرويا عنه صلى الله عليه وسلم مضمونه الترغيب في أمر أو الحض عليه، أو النهي عن شيء أو الذم له، استعنت بالله، وطالبت نفسك بالعمل بما حضك عليه، واجتناب ما نهاك عنه، وبالله التوفيق.
الفصل الثاني
من هذه الطريقة : أن تجدد الوضوء، وتروح إلى مكان خال لا يراك فيه أحد، ثم تجدد التوبة بينك وبين مولاك وخالقك، الذي بعث هذا النبي الكريم، وأنزل عليه الكتاب العزيز، فتكشف رأسك بين يدي مولاك، بعد أن تصلي ركعتين، بحضور، وخشوع، وبكاء، ثم تقول : يا رب جئتك تائبا إليك، راجعا إليك، معتذرا من تقصيري في مخالفتي أمرك، وارتكاب نهيك، من حيث أعلم، ومن حيث
Страница 26
لا أعلم، وها أنا قد كشفت رأسي بين يديك، نادما، مقلعا، عازما على اتباع أمرك، واجتناب نهيك، والعمل بما أنزلته في كتابك على النبي الكريم، نبيي، وشيخي، وأستاذي، ثم تقول الدعاء المشروع فيما رواه البخاري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سيد الاستغفار أن تقول : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
فلا تبرح من مكانك حتى يرق قلبك، وتجري دمعتك، ندما وخضوعا، وإذعانا، وانقيادا لمولاك، فذلك علامة الخير، ورجاء قبول التوبة.
الفصل الثالث
من هذه الطريقة المحمدية : إذا رجعت إلى منزلك ، احفظ هذه التوبة، وحكم هذا العهد الذي عاهدت.
فإن قلت : فكيف أحفظه? قلت: اعلم أنك عاهدت ربك عز وجل على لزوم طاعته، فحفظ هذا العهد إنما يكون بحفظ اللسان طول النهار ، عن الغيبة، والنميمة، والزور، وكل كلام لا فائدة فيه، فإن الملائكة عن يمينك وشمالك، يكتبون أقوالك وأفعالك، قال الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
Страница 27
وتحفظ عينيك عن النظر إلى النساء الأجانب والصبيان المرد، وتحذر من الاجتماع بهم لغير ضرورة، وإذا كان ضرووة فتحفظ وترمي بنظرك إلى الأرض، وتحفظ قلبك عن الميل، فإن الله عز وجل يعلم ما في قلبك، فلا تخن الله عز وجل وهو مطلع عليك، يعلم ما في سرك، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخلوة بالأجانب وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم: ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما، والأمرد كذلك، فاجتنب هؤلاء الأصناف، كيلا يوقعوك في نقض العهد الذي عاهدت مع ربك، فتعصي ربك بعد التوبة بزناء العين.
وزناء القلب.
وكذلك تحفظ سمعك عن الفواحش مما تحفظ عنه لسانك، فإن العبد يسأل يوم القيامة عن سمعه وبصره، وما عقد عليه بقلبه. قال لله تعالى : (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا).
فاستعد لمحاسبة ربك بلزوم طاعته، وطهارة جوارحك عن معاصيه ، عساك أن تلقاه بوجه أبيض - وذلك وجه الطائع - وإياك أن تلقاه بوجه أسود - وذلك وجه العاصي - قال الله تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه).
وكذلك تحفظ بطنك عن الحرام والشبهات - على قدر الاستطاعة - وتحفظ يديك ورجليك عن البطش والسعي إلى ما حرمه الله، أو كرهه، فحفظ ذلك العهد والتوبة برعاية جوارحك السبع: العين، والأذن، واللسان، والبطن، والفرج، واليد، والرجل فهذه هي رعاياك، وأنت راعيها، وكل مسؤول عن رعيته
Страница 28
فإذا اتقيت الله عز وجل فيها، من طلوع الشمس إلى غروبها، ومن غروبها إلى طلوعها ، حياء من الله عز وجل المطلع عليك ، العالم بما تتحرك به، وهو سبحانه فوق عرشه، وفوق سبع سماواته، يراك ويعلم سرك ونجواك، وقد أمرك على لسان نبيك ونهاك، والملكان يحفظان عليك ما تصنعه في عمرك، ويكتبانه في الصحائف، فتوافي في يوم القيامة في الموقف، فتنشر عليك تلك الصحائف فيها الأعمال، ثم توزن تلك الأعمال، فتجازى ، فمتى اتقيت الله - كما وصفت لك - كنت حافظا لذلك العهد الذي عاهدت ربك عز وجل به، وكنت من المتقين، قال الله تعالى: (إنما يتقبل الله من المتقين).
واعلم أن الاشتغال بما وصفت لك ، من إقامة حق التقوى والاستعداد للموت والآخرة، ولقاء الله عز وجل، وإصلاح الأوقات والأعمال، رجاء لقاء الله الحق، بوجه أبيض، وهو راض، في شغل شاغل عن قيل وقال، وتضييع الزمان بما يكتبه عليك الحفظة، ويعود عليك غبه في الآخرة، فاستعن بالله عز وجل وأقبل على آخرتك وعلى ما ينفعك غدا، فإنك - والله ثم والله - تعرض على الله ويسألك عن أعمالك، فاستعد للمسألة جوابا، وشد مئزرك، وانهض نهضة الأكياس المطيعين، ودع عنك ما اشتغل به الناس في زمانك من اشتغال البعض بالبعض، وصرف الزمان في: كان، وصار، وتم وجرى، وأقبل على ما ينفعك غدا.
قال الله تعالى: (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : يحشر الناس حفاة عراة غرلا، وفي حديث آخر:
Страница 29
فينظر العبد عن يمينه، فلا يرى إلا ما قدم، وعن شماله، فلا يرى إلا ما قدم، وبين يديه، فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم يكن، فبكلمة طيبة.
الفصل الرابع
من هذه الطريقة في الفقر المحمدي ، أنك إذا صليت الصلوات الخمس تكن حاضرا بقلبك فيها، ولا تعامل ربك وأنت غائب القلب، بل صل صلاة ناصح لمولاه، قد حضر بين يديه بجميعه، فلم يتخلف عن خدمته بشيء منه ، حضر بقلبه ، كما حضر بجسده ، ويعلم المصلي أنه واقف بين يدي ربه، وخالقه، وهو مطلع عليه، ويرى خطراته.
فإذا سمعت المؤذن، فاجعل نفسك كأنك قد سمعت داعي الله، فأجبت داعيه، ثم نهضت مطيعا ممتثلا لأمره، فتوضأت وضوء كاملا ثلاثا، ثم قصدت بيت مولاك مطيعا له، غير ملتفت، ولا مستعجل بل تمشي بالهيبة والسكينة والوقار.
فإذا دخلت المسجد ققل : أستغفر الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك، ثم تقصد الصف الأول، عن يمين الإمام، أو بقربه، ثم إن حصل لك مكان، فكل ذلك قد وردت فضيلته في السنة، ففي الحديث: إن الله وملاتكته يصلون على ميامن الصفوف، بشرط ألا يؤذي أحدا، فيشتغل قلبه بالزحام.
فإذا وقفت في مصلاك، فاحضر بين يدي رب الأرباب، ورب
Страница 30
العزة، حضور العبد الذليل، بين يدي الرب الجليل ؛ أو ما يستحي العبد إذا وقف بين يدي والي المدينة أن يقبل عليه بجميعه، ولا يلتفت عنه خشية سوطه أو إهانته، فإذا حضر بين يدي ملك الملوك، وجبار الجبابرة، وسلطان السلاطين ، جعله أقل الناظرين إليه، ففي الناس من يكون في الصلاة، وقلبه في السوق، أو في الحساب، أو في السوق يبيع ويشتري، فمثل هذه الصلاة تسمى : خرجية - كالمتاع الخرجي -.
ومن عامل الله تعالى معاملة خرجية يعامل - كذا - على نحوها، ومن عامل الله بالنصح والحضور والمحبة والتعظيم، كان جزاؤه على قدر ذلك.
ثم تكبر، وتقرأ الفاتحة، وتفهم ما تقول، ثم اركع متواضعا لعظمته، وتسجد كذلك، وإذا قرأت التحيات تسلم على ربك عز وجل، وعلى نبيك صلى الله عليه وسلم، وعلى الصالحين، فتكون عند ذكرهم وعند الدعاء في آخر الصلاة.
ورد في الأخبار : (أن العبد إذا قام إلى الصلاة رفع الله الحجاب بينه وبينه، وواجهه بوجهه الكريم، وقامت الملائكة من لدن منكبيه إلى الهوي، فيصلون بصلاته، ويؤمنون على دعائه، وينادي مناد: لو يعلم المصلي من يناجي ما التفت. وفي رواية: ما انفتل).
وقال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه : إذا وقف العبد في الصلاة ، يقول الله تعالى : ارفعوا الحجاب بيني وبين عبدي ، فإذا التفت، يقول : ارخوا فيما بيني وبينه، وخلوا عبدي وما اختار لنفسه.
Страница 31
واعلم بأن كل من كان له حال مع الله تعالى، فإنه يظهر في الصلاة، من كان حاله الخوف ظهر في الصلاة، أو الحب، أو القرب أو الاتصال ، أو الشهود، أو المحاضرة، فإنه يظهر في الصلاة، فإن الصلاة صلة. ومن علبت عليه الوساوس في الصلاة، فلا حال له.
واعلم أن في زمانك هذا تحضر القلوب عند سماع القصائد، وتظهر الأحوال في أوقات الحضور بين يدي الرب عز وجل في الصلاة التي هي أقرب ما يكون فيها العبد من ربه، تروح القلوب وتستولي عليها الوساوس والهواجس، فهذا علامة الفقر الفاسد. قال صلى الله عليه وسلم : أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجدا، فإذا كان العبد في أقرب المواطن - وهي الصلاة - بعيدا محجوبا فترى يحضر قلبه في السوق ? فلذلك قيل : من غلبت عليه الوساوس في الصلاة لا حال له ، لأنه محجوب في أقرب المواطن، فكيف يكون حاله في أبعدها ?
الفصل الخامس
من هذه الطريقة المحمدية : أن يعمل على براءة الذمة من الحقوق اللازمة، والديون والودائع، وصداق الزوجات ونفقاتهن، وتحالل من كان بينك وبينه ظلامة، وتذكر من كان له في ذمتك حبة أو قيراط، فتعمل على الخلاص منه كيف أمكن، فإنك قادم على ربك لا محالة، وهو محاسبك على ذلك، فاعمل على أن تلقاه وذمتك مخلصة، والخلاص في الدنيا أهون من الآخرة، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه كان إذا حضرت الجنازة، قال : هل على صاحبكم دين ? فإن قالوا: نعم. قال: صلوا على صاحبكم.
Страница 32
ومن ذلك أن تنصح للمسلمين في المعاملة، والبيع والشراء، فتحب لأخيك المسلم ما تحبه لنفسك، وإياك أن تأخذ الراجح وتعطيه الناقص، قال الله تعالى : (ويل للمطففين لليعم إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين).
وفي الجملة: فتهيأ للقاء الله عز وجل بكل ممكن، مستعينا بالله عز وجل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الفصل السادس
القيام بحقوق الخلق، فإن الدين شطران: أحدهما : حق تقوم به لله تعالى.
والثاني: حق تقوم به للخلق، وخصوصا للإخوان المحبين الذين يطلبون ما تطلب، ويريدون ما تريد، يحبون العمل على بياض الوجه مع الله تعالى في الدار الآخرة، وعلى بياض الوجه مع محمد صلى الله عليه وسلم.
فبياض الوجه مع الله تعالى إنما يكون باتباع أمره، واجتناب نهيه، وجملته اتباع الشرع، فلا يتحرك العبد حركة إلا بالشرع.
وبياض الوجه مع محمد صلى الله عليه وسلم يكون باتباع السنة، والحرص على سماعها، والعمل بها.
Страница 33
فمن كان مطلبه هذا المطلب، وصحبك للتعاضد والتعاون على البر والتقوى، كما قال الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوي) فاصحبه بالرحمة والنصيحة، والإيثار بما يفضل عنك إذا كان محتاجا، وإذا رأيت منه تقصيرا فانصحه بالتقصير لا بالتعنيف، واحلم عنه في أوقات، وطالبه بالرفق في أوقات، وامزج حموضة أمرك له بحلاوة لطفك به، وكن له كالوالد، أو كالأخ الشفيق، تحب له ما تحب لنفسك، ولا تطالبه بحظك، مل تطالبه بحقوق الله تعالى، ففي الحديث : ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، وكان إذا انتهكت المحارم لم يقم لغضبه شيء.
وجره إلى الحق قليلا قليلا، فإن النفوس آبية تحتاج إلى الرفق، و لا تنتظر نتوجه، واعمل على قطع منه، واصحبه لله عز وجل لا لحظ تناله منه .
واعلم أن هذا الصاحب إذا وقعت منه إساءة فهي على قسمين: القسم الأول: أن تكون وقعت على وجه السهو والغفلة والخطأ والجهل، وعلامته: أنه إذا وقع يكون مسترشدا طالب الهدى، يتعلم الطريق إلى محوها، فمثل هذا يطالب بالرفق، فإذا اعتذر قبلت معذرته، ولم تنقطع مادته من القلب.
القسم الثاني : أن يسفه المريد على شيخه تعمدا، ويناديه بغليظ القول، ويذكر عيوبه ومناقصه بحذاه ووراءه، ثم يعود فيعتذر ويكف، فحكم هذا أن تقبل منه المعذرة ظاهرا، ولا يقطع السلام، ولا يصحب
Страница 34
بعدها، فإن عقوق المريد بين الفقراء لا توبة لها، لأن تلك اللطيفة القلبية ، التي كانت تعمل على تربيته ، ويصل منها النصيب الإلهي إليه انقطعت، لأن النصيب إنما يصل إلى المريد إذا كان معظما لشيخه يهابه ، ويحترمه، ويحبه.
إذا جفاه شيخه لا يذكره بسوء، بل يعرض عن ذلك أياما ثم يعود وهو حافظ لحرمته ومنزلته من صدره، فمتى ما جاء شيخه غليظ القول، دل ذلك على سقوط منزلة الشيخ من قلبه، فتنقطع المادة الباطنة ، وتبقى المادة الظاهرة الإسلامية ، فإننا نهينا عن التقاطع والتهاجر، ومثل هذا لا ينبغي أن يصحب، بل يعطى حقه ويكتفى شره.
وينبغي للفقير أن يصحب الفقراء بالعزة والتعظيم، والحرمة والإيثار والتواضع، ويصحب الأغنياء بالغنى عنهم، وعما في أيديهم ويجعل الطلب لهم لا له، فإذا طلبوه وأحبوه لله عز وجل أجابهم، و لا يشبع من طعامهم، على موائدهم، بل يأكل لحفظ قلوبهم، فيكون أكله لحقهم، لا لحظه.
ويعمل على السكوت عندهم، فإذا كلموه أجابهم على قدر سؤالهم. ويطالبهم مطالبة الأصحاب، ولا ينزلهم من قلبه منزلة المريدين، فيحاققهم على الدقائق، فلكل مرتبة حق وجد، ولكل رجل ميزان يوزن به، فلا ينبغي أن توضع الأشياء إلا في مواضعها، فبذلك تستقيم الأمور.
Страница 35
الفصل السابع
ومن رمى عليك شره، أو طالبك بأمر لا يليق، لقصور فهمه، وخفت تغير قلبه، فداره مداراة بطيب الكلام، والفراغ عنه، لكي تسلم من شره، ولا تقع فيما تكره.
والفرق بين المداراة والمداهنة : أن المداراة هي أن تظهر خلاف ما تضمر لاكتفاء الشر، وحفظ الوقت.
والمداهنة: إظهار ذلك لطلب الحظوظ، والنصيب من الدنيا.
وربما أشبهت المداراة المكر في بعض الوجوه، وهي محمودة على كل حال ، لأن فيها السلامة.
وفي المحاققة مع من لا يسمع أو لا يفهم الشر كله، فمكر تحصل به السلامة، خير من محاققة تفضي إلى شر.
فائدة: لا تحاقق إلا من كان صادقا فيك، يطلب منك أن تحاققه فأما من يرى نفسه عليك، فإياك ومحاققته، بل داره، وأعرض عنه.
الفصل الثامن
لا تصحب من الناس من لا يطلب مطلبك، ولا يريد مرادك، ويستخف بالفقراء ويستهين بهم، ولا تصحب المنان الذي يمن عليك برفقته وخدمته وإيثاره، فكل هؤلاء لا خير في صحبتهم.
Страница 36
واعلم أن الناس يقولون : الفقراء الفقراء، وما يدرون ما حقيقته، ولا ما بدايته، ولا ما نهايته، ولا يعرف الفقر إلا أهله.
وأنا ذاكر لك من بدايات الفقر نكتة واحدة، فإذا عرفتها عرفت عزة الفقر، وعرفت نهاية الققر.
من دخل في ميدان الفقر ، ولا يقدر أن يدخله إلا بعد الفراغ من القيام بالأمر، واجتناب النهي الظاهر، فأول حالهم بعد ذلك أن يحفظوا خواطرهم مع الله عز وجل كما يحفظ المتقي لسانه وسمعه وعينه، فما ظنك برجل تمر في قلبه خطرة لا ترضي مولاه إلا تاب منها.
ومنهم من استقام قلبه، وصلحت خواطره، فلا يخطر له - غالبا - إلا خاطر حق، وهم الأولياء يستحون من الله عز وجل أن يخطر بقلوبهم محرم أو معارضة، لأنهم موقنون بنظره وعلمه، فإذا كنا ما وصلنا إلى هذا - ونحن من البدايات - كيف لا نستحي من دعوى الفقر.
وأذكر لك نكتة أخرى من نكت الفقراء في بداياتهم - أول بداياتهم - بعد إقامة الأمر واجتناب النهي، وحفظ الخواطر، تبدو على قلوبهم إرادة الحق عز وجل وطلبه، فتشتعل نار الإرادة في قلوبهم طلبا للحق عز وجل فتخلو قلوبهم من مطالب الدنيا ومآربها، وتبقى فارغة من سوى مطلوبها، فإذا كنا ما وصلنا إلى هنا، وهو من البدايات ، كيف تصح لنا دعوى الفقر? وما شممنا لبداياته رائحة.
Страница 37
وأما أمور الفقراء الواصلين، فلا يتسع هذا الموضع لشرح حالهم، لأن مقصودنا الاقتصار، والقلوب تضيق عن سماع بداياتهم، فكيف يكون حالها في سماع نهاياتهم ? والواجب علينا أن نبكي على أنفسنا حيث قد ابتلينا اليوم بطوائف شغلهم أكل الحرام؛ من الملبوس والمظالم، والحلال عندهم ما وجدوه، والحرام ما فقدوه، ويدورون طول نهارهم على لقمة يحصلونها، أو صورة يتمتعون بالنظر إليها، ويظهرون الأحوال، يتأكلون بها عند الناس، ولهم مع ذلك الدعاوى العريضة، وما شموا رائحة الإسلام الخاص في الظاهر، ولا رائحة الإيمان النافذ في الباطن يقيمون السماعات ويرقصون عليها طول الليل، فإذا صلوا نقروا نقر الغراب، فما أبعدهم عن الله عز وجل.
يتباهون بالدخول على الأمراء، وأخذ فتوحهم - نسأل الله أن يبعدهم عنا - فهؤلاء قطاع الطريق ، قطعهم لطريق الله أصعب من لصوص الطرقات، فإن اللصوص يأخذون المال، وهؤلاء لا يراهم الجاهل، فيظن أن هذا هو الفقر، وهو الدين، فيقطعون عليه الطريق، فشغلهم أكل أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، طهر الله الأرض منهم، وطمس آثارهم، فلقد وسخوا الفقر وسودوا الدين، وهذا هو النفاق حقيقة، أن يظهر الإنسان الحال بلا حقيقة، ليتأكل به.
ورضي الله عن أهل الخشية، والخوف، والتعظيم، والمراقبة، ومعرفة السنة، والمتابعة، المستورين، الذين يعرفهم الله ويعرفونه، أولئك أهل الحضرة الإلهية، والنفحات القدسية، سلام الله عليهم.
Страница 38
فنسأل الله الكريم أن يوفقنا - وإياكم - لما يحبه ويرضاه ويجنبنا - وإياكم - عما يكرهه ويسخطه، ولا يرضاه، آمين.
الفصل التاسع
وعلامة أهل الفقر المحمدي، أنهم إذا سمعوا القرآن طربوا إليه، وتجلى فيه المتكلم - سبحانه - بصفاته المقدسة على قلوبهم.
يا عجبا لمن يدعي محبة الله تعالى، ولا يجد قلبه عند سماع كلام الحبيب، ويجد قلبه عند سماع القصائد والتصفيق!
أما المحبون لله عز وجل سماع القرآن هو شفاء صدورهم، وراحة أسرارهم، يحضر فيه المتكلم - سبحانه - يشاهدونه في كلامه في أمره ونهيه، في وعده ووعيده، وقصصه وأخباره، ومواعظه وأنبائه، فترق قلوبهم، وتنجذب بالمحبة والشوق أرواحهم، وتخمد صفات نفوسهم، تقهرها عظمة المتكلم - سبحانه - وتجذب قلوبهم بالمحبة لمشاهدة رحمته وألطافه، وجلاله وإكرامه.
و لا تسمع قول من يقول : إن القرآن لا يناسب طباع البشر، فلذلك لا تجد الوجد في سماعه، والشعر يناسب البشر، فلذلك ترق القلوب فيه، فإن هذا كلام فاسد، لا حقيقة له، وذلك لأن الشعر يحرك الطباع بأوزانه، خصوصا إذا قاله صاحب نغمة طيبة، كالرست والرهوي، وغيرهما، وانضاف إليه التصفيق، وكان هناك قوم يرقصون، فمثل هذا يحرك الأطفال والبهائم، بمقتضى الطبع والجبلة لا بمقتضى الإيمان واليقين.
Страница 39
أما أهل الإيمان واليقين، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم، من أتباعهم بإحسان ، يحرك القرآن عندهم ما سكن من اليقين، فيكون حركة قلوبهم وخشوعهم ووجدهم. واقشعرار جلودهم ولينها إنما هو بحكم اليقين والمعرفة، لا بحكم الطباع والجبلة، فافهم هذا الأمر واعرفه.
قال الله تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى تقشعر منه جلود ألذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله).
فارفضوا - رحمكم الله - سماع الأبيات، وعليكم بسماع الآيات، فإن فقدتم قلوبكم في القرآن، فاتهموها بقلة النصيب، من معرفة المتكلم، فأعرف الناس بالله عز وجل أخشعهم عند سماع كلامه، لأنه سمع كلام من يعرفه، والجاهل بالله يجد قلبه في الشعر، لجهله بالله عز وجل، ولا يجده عند قراءة القرآن، لأنه لا يعرف صاحبه، فإذا عملتم سماعا، فاعملوه بقارئ متق لله، طيب الصوت، تشبهوا بذلك أصحاب نبيكم صلى الله عليه وسلم.
تمت القاعدة بحمد الله تعالى وحسن توفيقه، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليما، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
Страница 40
قاعدة في صفة العبودية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خضعت لهيبته قلوب الأولياء، وخشعت من مهابته أسرار الأصفياء، وانقادت إلى عبوديته أعناق الأتقياء، سبحانه وتعالى هو المتعزز بالوحدانية والكبرياء، والمتعال بعظمته والصفات المقدسة الواردة على ألسن الأنبياء.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، رب السموات والأرض، وما بينهما من الأشياء، وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، سيد ولد آدم من الأموات والأحياء، صلى الله عليه وسلم صلاة دائمة تسمو بصاحبها إلى العلياء .
وبعد: فإن العبودية من أعلى مقامات الصديقين، والتواضع لعظمة الله تعالى من أسنى ملابس المقربين ، من ظهرت آثارهما عليه ، دل ذلك على وجدانه وعرفانه، ومن لم يتقمص بهما، فقد أقر بما يظهر عليه من صفات الطبيعة، ببعده وهوانه.
لا حال للعبد أشرف من ظهوره بصفات العبودية، والارتضاء لأحكام الربوبية.
Страница 41
من تعدى صفته إلى ما لا تستحقه من الصفات ، أبان عن جهله وحمقه، ومن وقف على ما يقتضيه حاله من صفاته وحدوده أنصف في عبوديته وحقه.
وكيف لا ? والعجز والضعف صفتاه، والفقر والذل حالتاه، قد اتصف ربه بأضدادهما من الصفات، من القدرة والقوة، والغنى والعزة، فمن أظهر إلى الله تعالى عجزه، وشكا إليه ضعفه وفقره، وتقمص ذله وكسره، فكأنه تسمى بأسمائه التي يستحقها، وتكنى بكناه التي بها ظهر للخليقة رقها، لأنهم مربوبون، وبعزة الربوبية مقهورون فذلك سيماء من عرف ربه فقدرها قدرها، وعرف ربه فقدره قدره.
قال الله تعالى : (وما قدروا الله حق قدره) .
وقد جاء في بعض الأخبار : أن الملائكة يقولون يوم القيامة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، وقد جاء في بعض الآثار: أن الله تعالى قال لداود عليه السلام : يا داود ، اعرفني واعرف نفسك قال: يا رب قد عرفت نفسي بالعجز والضعف والفناء، وعرفتك بالقدرة والقوة والبقاء، قال الله تعالى: يا داود الآن عرفتني، أو نحو ذلك.
فعلى العبد أن يلازم صفاته، ويعرف نفسه بها، ولا يتعداها فيكون من الجاهلين، وربما أداه ذلك إلى قلب الحقائق، فيكون من الفراعنة الملحدين ، نسأل الله أن يعصمنا من ذلك وإياكم أجمعين.
وقد جاء في الحديث: أسألك إيمانا يباشر قلبي، فعلامة من باشر الإيمان قلبه، وهو عبارة عن معرفته لربه سبحانه وتعالى، بأفعاله
Страница 42