أجل، لم تكن تنظر إلى الأمر بعين الاستهانة أو اللهو، وإلى هذا تكشفت نفسها له عن خفة وطيش، ونزق أقنعته جميعا بأن سلوكها الشاذ معه في أول مقابلة لم يكن أمرا مستغربا، فاستهان بها وازدراها، وتضخمت عيوبها في عينيه الزاريتين حتى ضاق بها كل الضيق، وصمم على التخلص منها في أول فرصة تسنح، وإن حرص على تجنب الفظاظة أن تبعثر العراقيل في طريق مريم. قال لها مرة: ألا تتساءل مريم عن سر اختفائي؟
فقالت، وهي تطمئنه بحركة من رأسها: إنها على بينة من معارضة أسرتك.
فقال بعد تردد: أصارحك بأننا كنا نتحادث أحيانا فوق السطح، وأني رددت لها مرات بأنني مصمم على الزواج منها مهما يكن من معارضة المعارضين.
فحدجته بنظرة نافذة، وهي تتساءل: ماذا تريد؟
قال متظاهرا بالبراءة: أريد أن أقول إنها سمعت مني ذلك التوكيد، وأنها علمت بعد ذلك بزيارتي لك، فينبغي أن تقتنع بسبب وجيه لاختفائي.
فقالت بغير مبالاة أدهشته: لن يضيرها ألا تقتنع، فليس كل كلام بمفض إلى خطبة، ولا كل خطبة بمفضية إلى زواج، إنها تعلم علم اليقين.
ثم بصوت منخفض: ولن يضيرها أن تفقدك، إنها شابة في عز جمالها، ولن تعدم خاطبا اليوم أو غدا.
كأنها تعتذر عن أنانيتها، أو تلمح إلى أنها هي - لا ابنتها - التي يضيرها فقده، فلم يزده قولها إلا ضيقا ومللا. إلى أنه أخذ يتوجس خيفة من معاشرة امرأة تكبره بعشرين عاما، متأثرا بما يتردد بين العامة من أن مخادنة الكهلات تذبل الشبان، حتى شحنت ساعات اللقاء - من ناحيته - بالتوتر والحذر فمقتها مقتا. وإنه لعلى ذاك إذ صادف مريم يوما في السكة الجديدة، فتقدم منها دون تردد، وسلم عليها، وسار إلى جانبها كأنه من ذوي قرباها، كانت قلقة عابسة، فأخبرها بأنه كان يقنع والده بالموافقة حتى ظفر بها، وأنه يعد مسكنه بقصر الشوق ليكون صالحا لهما، واعتذر عن طول غيبته بكثرة مشاغله، ثم قال لها: «أخبري والدتك بأنني سأجيء غدا لمقابلتها للاتفاق على عقد القران.» ومضى سعيدا بانتهاز الفرصة التي سنحت على غير ميعاد، غير عابئ - في غمرة السعادة - بما سيكون موقف بهيجة منه، وفي مساء ذلك اليوم جاءت بهيجة في ميعادها إلى قصر الشوق، ولكنها جاءت هذه المرة منفعلة كسيرة النفس. بادرته هاتفة قبل أن ترفع برقعها: بعتني غيلة وغدرا.
ثم انحطت على الفراش، وهي تنزع برقعها في نرفزة، وتقول: لم يطف بخاطري أنك تضمر لي هذا الغدر كله، ولكنك جبان غادر كسائر الرجال.
قال ياسين برقة المعتذر: ليس الأمر كما تتصورين، الحق أني قابلتها صدفة.
Неизвестная страница