رفع السيد حاجبيه متسائلا دون أن ينبس، فقال ياسين: المرحوم السيد محمد رضوان. - لا ...!
ندت عن السيد أحمد قبل أن يتمالك نفسه، ندت عنه في تأفف واحتجاج حتى شعر بأنه ينبغي أن يبرر تأففه واحتجاجه بسبب وجيه يداري به حقيقة مشاعره، ولم يعوزه ذلك، فقال: أليست كريمته مطلقة؟ فهل ضاقت الدنيا حتى تتزوج من ثيب؟
لم يفاجأ ياسين بهذا الاعتراض، كان يتوقعه منذ اللحظة التي عزم فيها على الزواج من مريم، غير أنه كان قوي الأمل في التغلب على معارضة أبيه التي لم يتصور أن تكون إلا صدى لتفضيل البكر على الثيب، أو تجنبا لامرأة عسية بأن تذكره بمأساة ابنه الراحل، وكان يؤمن بحكمة أبيه ويرجو أن تستهين في النهاية بهذين المأخذين الواهيين، بل كان يعتمد كل الاعتماد على موافقته في التغلب على المعارضة الحقيقية التي يتوقعها عند امرأة أبيه، تلك المعارضة التي وقف أمام التفكير فيها حائرا، حتى خطر له أن يغادر البيت مغادرة الهارب كي يتزوج كما يحلو له مواجها الجميع بالأمر الواقع، ولولا أن إغضاب أبيه كان فوق طاقته لفعل، إلا أنه عز عليه أن يتجاهل عواطف أمه الثانية - بل أمه الأولى - قبل أن يبذل قصاراه لاستمالتها واقتناعها برأيه، قال: لم تضق بي الدنيا، ولكنها القسمة والنصيب، أنا لا أبحث عن المال أو الجاه، وحسبي الأصل الطيب والخلق القويم.
إن كان ثمة عزاء وسط هذه الأمور المعقدة المؤسفة، فهو صدق رأيه فيه الذي لا يكذب أبدا. هذا هو ياسين بلا زيادة ولا نقصان، إنسان - أو حيوان - تسير المتاعب من بين يديه ومن خلفه، ولو جاء بنبأ سعيد أو زف إليه بشرى سارة لما كان ياسين، ولخاب تقديره ورأيه فيه، لعله مما لا يعيبه ألا يبحث في الزوجة عن المال أو الجاه، أما الخلق فمسألة أخرى، ولكن البغل معذور ويبدو - وهذا طبيعي - أنه لا يدري شيئا عن سيرة أم الفتاة التي يرومها زوجة، تلك سيرة يعرفها هو وحده معرفة الفاعل، ولعل آخرين سبقوه إليها أو لحقوا به. فما العمل؟ أجل قد تكون الفتاة مهذبة، ولكن من المؤكد أنها لم تظفر بأحسن أم ولا بأحسن بيئة، ومن المؤسف أنه لا يستطيع أن يجهر برأيه - ذاك - ما دام لا يسعه أن يقرن القول بالدليل، خاصة وأنه رأى خليق بأن يقابل - ممن يسمعه لأول مرة - بالإنكار والانزعاج. والأدهى من ذلك أنه يخاف أن يلمح إليه، فيدفع ياسين إلى البحث والاستقصاء فيعثر آخر الأمر على أثر بصماته هو - أبيه - فتكون الفضيحة التي ليس وراءها فضيحة.
المسألة إذن دقيقة حرجة، ثم إن ثمة شوكة حادة تكمن في تضاعيفها - هي - تاريخ قديم يتصل بفهمي، ألا يذكر ياسين ذلك؟ كيف هان عليه أن يرغب في فتاة تطلع إليها قديما أخوه الراحل؟ أليس هذا سلوكا بغيضا؟ بلى، إنه لكذلك وإن كان لا يشك في إخلاص الشاب لأخيه الراحل، إن منطق الحياة القاسي يقيم عذرا لأمثاله، إن الرغبة طاغية أعمى لا يرحم وهو أخبر الناس بذلك.
قطب الرجل ليشعره بتضايقه، ثم قال: إن قلبي لم يرتح لاختيارك، لا أدري لماذا! كان المرحوم السيد محمد رضوان رجلا طيبا حقا، ولكن الشلل حال بينه وبين رعاية بيته منذ زمن بعيد سابق لوفاته، لم أقصد بهذه الملاحظة إساءة الظن بأحد، كلا، ولكنه كلام يقال، ربما ردده بعض الناس، هه؟ الأهم عندي أن الفتاة مطلقة، لماذا طلقت؟ هذا سؤال من أسئلة كثيرة ينبغي أن تعلم جوابها، لا يصح أن تأمن مطلقة حتى تستقصي كل شيء عنها، لعل هذا ما أرادت قوله، والدنيا ملأى ببنات الناس الطيبين.
قال ياسين متشجعا بأسلوب أبيه، الذي اقتصر على النقاش والنصح: بحثت بنفسي وبواسطة آخرين، فتبين لي أن الحق كان على الزوج، إذ كان متزوجا وأخفى عنهم ذلك، فضلا عن عجزه عن الإنفاق على بيتين في وقت واحد وسوء خلقه.
سوء خلقه، إنه يتكلم - بلا حياء - عن سوء الخلق، البغل يمدك بمادة بكر لمزاح سهرة كاملة، قال: إذن فرغت من البحث والتقصي!
قال ياسين بحياء، وهو يتهرب من عيني أبيه الحادتين: تلك خطوة بديهية.
فسأله الرجل، وهو يخفض عينيه: ألم تدرك أن تلك الفتاة ترتبط بذكريات أليمة لنا؟
Неизвестная страница