فقال السيد كالمعتذر: هذه أشياء لا بد منها للقلب الحزين، أما الأخرى ...
زبيدة وهي تلوح له بيدها كأنما تقول له: «آه منك آه»: علمت الآن أنك تعدنا شرا من كافة الذنوب والخطايا.
محمد عفت هاتفا مقاطعا، كأنما تذكر أمرا هاما كاد يفلت منه: هل جئنا من أقصى الأرض كي نتكلم، على حين تطل علينا الأقداح ولا تجد من يعنى بها! املأ الأقداح يا علي، اربطي الأوتار يا زنوبة؟ اخلع ملابسك يا حضرة المتهم، أنت حاسب نفسك في مدرسة؟ انزع الجبة والطربوش، لا تظن أنك أعفيت من التحقيق، ولكن يجب أولا أن تسكر المحكمة، وأن تسكر النيابة ثم نعود إلى التحقيق. جليلة أصرت على تأجيل السكر حتى يحضر سلطان الفرفشة أو كما قالت، هذه الولية تعزك إعزاز الشيطان للضال المزمن، بارك الله لك فيها وبارك لها فيك.
نهض السيد أحمد ليخلع الجبة، قام علي عبد الرحيم ليتولى - كعادته - مهمة الساقي، صدرت عن أوتار العود همسات غير مؤتلفة للاختبار، دندنت زبيدة في غمغمة، سوت جليلة بأناملها خصلات شعرها وطوق الفستان فيما بين ثدييها، تابعت أعين بتشوق يدي علي عبد الرحيم وهو يملأ الأقداح، تربع السيد أحمد في مجلسه وهو يجيل بصره في المكان والناس حتى التقت عيناه اتفاقا بعيني زنوبة فابتسمت الأعين تحية، قدم علي عبد الرحيم الدفعة الأولى من الكئوس، قال محمد عفت: صحتكم ومحبتكم. قالت جليلة: نخب العودة يا سي أحمد. قالت زبيدة: نخب الهداية بعد الضلال. قال أحمد: نخب الأحباب الذين فرق الحزن بيني وبينهم. شربوا عندما رفع السيد أحمد كأسه إلى شفتيه، رأى من فوق سفح الكأس وجه زنوبة مرفوعا كذلك إلى كأسه فهزته نضارته، قال محمد عفت لعلي عبد الرحيم املأ الثاني، وقال له إبراهيم الفار: والثالث في أثره حتى نثبت الأساس. قال علي عبد الرحيم وهو يشمر: خادم القوم سيدهم. وجد أحمد عبد الجواد نفسه يتابع أنامل زنوبة وهي تربط الأوتار، فتساءل عن عمرها ثم قدره بين الخامسة والعشرين وبين الثلاثين، ساءل نفسه مرة أخرى عما جاء بها ... العود؟ ... أم أن خالتها زبيدة تهيئ لها سبيل الرزق؟ قال السيد إبراهيم الفار: إن النظر إلى ماء النيل يدوخه. فهتفت به جليلة: يا ابن الدايخة، سأل علي عبد الرحيم: إذا رميت امرأة في حجم جليلة أو زبيدة إلى الماء فهل تغرق أم تطفو؟ فأجابه السيد أحمد بأنها تطفو إلا إذا كان بها ثقب، ساءل السيد أحمد نفسه عما يحدث لو نزعت به نفسه إلى زنوبة، فأجابت نفسه بأن ذلك يكون فضيحة لو أراده الآن، أما بعد خمس كئوس فلن يخلو من حرج، وأما بعد زجاجة فيكون واجبا ... اقترح محمد عفت أن يشربوا كأسا في صحة سعد زغلول ومصطفى النحاس اللذين سيسافران في نهاية الشهر من باريس إلى لندن للمفاوضة، اقترح إبراهيم الفار أن يشربوا كأسا آخر في صحة مكدونالد صديق المصريين، تساءل علي عبد الرحيم عما عناه ماكدونالد بقوله: «إنه يستطيع أن يحل القضية المصرية قبل أن يفرغ من فنجان القهوة الذي كان بين يديه.» فأجابه أحمد عبد الجواد بأن ذلك يعني أن الإنجليزي يشرب فنجان القهوة - في المتوسط - في نصف قرن، تذكر السيد أحمد كيف ثار على الثورة عقب مصرع فهمي، وكيف ثاب رويدا إلى مشاعره الوطنية الأولى لما أسبغه الناس عليه من تقدير وإكبار بصفته والد لشهيد نبيل، ثم كيف انقلبت مأساة فهمي مع الزمن مفخرة يباهي بها وهو لا يدري.
رفعت جليلة كأسها صوب السيد أحمد وهي تقول: صحتك يا جملي، طالما كنت أسائل نفسي هل نسينا حقا السيد أحمد؟ ولكني علم الله عذرتك ودعوت الله أن يلهمك الصبر والعزاء، لا تعجب فأنا أختك وأنت أخي.
فسألها محمد عفت بخبث: إذا كنت أخته وكان أخاك كما تدعين، فهل يفعل الأخوان ما فعلتما في زمانكما؟
فأطلقت ضحكة أعادت إلى الأذهان ذكريات عام 1918 وما قبله، وقالت: سل أخوالك يا روح أمك!
قالت زبيدة وهي تلحظ أحمد عبد الجواد بمكر: بدا لي رأي آخر في تفسير غيبته الطويلة.
سألها أكثر من صوت عما بدا لها، على حين تمتم السيد أحمد بصوت المستعيذ: يا ساتر استر. - بدا لي أنه ربما كان حصل عنده ضعف مما يدرك الكهول أمثاله، فاعتل بالحزن واختفى.
قالت جليلة معترضة، وهي تهز رأسها على أسلوب العوالم: إنه آخر من يدركه الكبر.
Неизвестная страница