ومع أن مبادرته إلى الرفض أحنقته، إلا أنه لم يجد من نفسه نحو المدرسة الجديدة إلا الفتور، لظنه أنها إنما تخرج «تجارا» ولم يكن يرضى لابنه أن يكون تاجرا. لم يغب عن علمه أول الأمر أن متجرا كمتجره - وإن هيأ له حياة صالحة - فإنه أعجز من أن يهيئ هذه الحياة لمن يخلفه فيها من أبنائه إذا روعي ما سيفرق من دخله على بقية المستحقين، فلن يعمل على إعداد أحد منهم ليحل محله. على أن ذلك لم يكن السبب الجوهري لفتوره، كان في الحق يكبر الوظيفة والموظفين، ويدرك خطرهم ومنزلتهم في الحياة العامة كما لمس ذلك بنفسه، سواء في أصدقائه من الموظفين أو في بعض اتصالاته الحكومية المتعلقة بعمله، فأراد أبناءه على أن يكونوا موظفين، وأعدهم لذاك. كذلك لم يكن يخفى عليه أن التجارة لا تحظى بربع ما تحظى به الوظيفة من التقدير في نظر الناس، وإن أخلفت أضعافها من المال، وهو نفسه شارك الناس شعورهم وإن لم يعترف بذلك بلسانه، بل كان يعتز بإكبار الموظفين له فيعد نفسه من الناحية «العقلية» موظفا أو ندا للموظفين، ولكن من غيره يسعه أن يكون تاجرا وندا للموظفين معا؟ ومن أين لأبنائه بشخصية مثل شخصيته؟ آه، يا لها من خيبة أمل! كم تمنى قديما أن يرى ابنا من أبنائه طبيبا، وكم ناط بفهمي أمنيته حتى قيل له: إن البكالوريا الآداب لا تؤدي إلى مدرسة الطب؛ فرضي بالحقوق واستبشر بما بعدها خيرا، ثم علق أمله بكمال فاختار قسم الآداب؛ فعاد الرجل يحلم بما بعد الحقوق، ولكنه لم يتصور قط أن تنجلي المعركة بين آماله وبين الأقدار بوفاة «نابغة» الأسرة، وبإصرار كمال على أن يكون معلما. أي خيبة أمل؟! وبدا السيد حزينا حقا، وهو يقول: لقد أخلصت لك النصيحة، وأنت حر فيما تختار لنفسك. ولكن ينبغي أن تذكر دائما أنني لم أوافقك على رأيك، فكر في الأمر طويلا. لا تتعجل، فما يزال أمامك فسحة من الوقت، وإلا ندمت على سوء اختيارك مدى الحياة. أعوذ بالله من الحمق والجهل والسخف!
وطرح الرجل رجله على الأرض آتيا حركة دلت على شروعه في القيام ليأخذ أهبته لمغادرة البيت، فنهض كمال في أدب وحياء، وانصرف.
عاد إلى الصالة فوجد أمه وياسين جالسين يتحادثان، وكان موزع النفس، كاسف البال لمعارضته لأبيه، ولإصراره على معارضته رغم ما أبدى الرجل من حلم ولين. ثم لما بدا عليه أخيرا من ضيق وحزن، فقص على ياسين خلاصة ما دار في الحجرة من نقاش، وأنصت إليه الشاب، وعلى جبهته علامة احتجاج، وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة، وسرعان ما صارحه بأنه من رأي السيد، وبأنه يعجب لجهله للقيم الجليلة في هذه الحياة، وتطلعه لأخرى وهمية أو سخيفة. تريد أن تجود بحياتك للعلم؟ ما معنى هذا؟ إنه سلوك رائع كما يبدو في فصل من فصول المنفلوطي، أو في نظرة من نظراته، أما في الحياة فما هو إلا عبث لا يقدم ولا يؤخر، وأنت تعيش في الحياة لا في كتب المنفلوطي ... أليس كذلك؟ الكتب تقرر أمورا غريبة وخارقة، مثال ذلك: أنك تقرأ فيها أحيانا «كاد المعلم أن يكون رسولا» ولكن هل صادفت مرة معلما يكاد أن يكون رسولا؟ تعال معي إلى مدرسة النحاسين أو تذكر من تشاء من معلميك، ودلني على واحد منهم يستحق أن يكون آدميا لا رسولا، وما هذا العلم الذي تريد؟ أخلاق وتاريخ وشعر؟ كل أولئك جميل للتسلية، حاذر من أن تفلت من يديك فرصة الحياة الرفيعة، كم أتحسر أحيانا على معاكسة الظروف التي حالت بيني وبين مواصلة الدراسة!
تساءل عندما خلا إلى أمه على أثر ذهاب الأب وياسين، ترى ما رأيها؟ ... لم تكن ممن يؤخذ رأيهم في مثل هذا الأمر، بيد أنها تابعت أكثر حديثه مع ياسين، إلى أنها كانت على علم برغبة السيد في إلحاقه بمدرسة الحقوق، الأمر الذي باتت تتطير منه فلم ترتح إليه. على أن كمال كان يعرف كيف يظفر بموافقتها من أقصر سبيل، قال لها: إن العلم الذي أرغب في دراسته وثيق الصلة بالدين، ومن فروعه: الحكمة، والأخلاق، وتأمل صفات الله، وكنه آياته ومخلوقاته. فتطلق وجه أمينة، وقالت بحماس: هذا هو العلم حقا، علم أبي، علم جدك، إنه أجل العلوم.
وفكرت قليلا وهو ينظر إليها من طرف خفي باسما، ثم عادت تقول بنفس الحماس: من ذا الذي يحتقر المعلم يا بني؟ ألم يقولوا في الأمثال: «من علمني حرفا صرت له عبدا»؟
فقال مرددا حجة أبيه الذي هاجم بها اختياره، وكأنما يستوهبها رأيا يؤكد به موقفه: ولكنهم يقولون: إن المعلم لا حظ له في المناصب الرفيعة!
فلوحت بيدها باستهانة قائلة: المعلم موفور الرزق، أليس كذلك؟ حسبك هذا، إني أسأل الله لك الصحة وطول العمر وصالح العلم، كان جدك يقول: «إن العلم أعز من المال».
أليس عجيبا أن يكون رأي أمه خيرا من رأي أبيه؟ ولكنه ليس برأي، إنه شعور سليم، لم تفسده ممارسة الحياة الواقعة التي أفسدت رأي أبيه، ولعل جهلها بشئون العالم هو الذي صان شعورها عن الفساد، ترى ما قيمة شعور - وإن سما - إذا كان مصدره الجهل؟ وألا يكون لهذا الجهل نفسه أثره في تكوين آرائه؟ ... ثار على هذا المنطق، وقال يحاوره: إنه عرف الدنيا خيرها وشرها في الكتب، وآثر الخير عن إيمان وتفكير، وقد يلتقي الشعور الفطري الساذج بالرأي الحكيم دون أن تهوى سذاجة الفطرة من أصالة الحكمة. أجل، إنه لا يشك لحظة في صدق رأيه وجلاله، ولكن هل يدري ماذا يريد؟ ليست مهنة المعلم بالتي تجذبه، إنه يحلم أن يؤلف كتابا، هذه هي الحقيقة، أي كتاب؟ لن يكون شعرا، إذا كانت كراسة أسراره تحوي شعرا، فمرجع ذلك إلى أن عايدة تحيل النثر شعرا لا إلى شاعرية أصيلة فيه. فالكتاب سيكون نثرا، وسيكون مجلدا ضخما في حجم القرآن الكريم وشكله، وستحدق بصفحاته هوامش الشرح والتفسير كذلك، ولكن عم يكتب؟ ألم يحو القرآن كل شيء؟ لا ينبغي أن ييئس، ليجدن موضوعه يوما ما، حسبه الآن أنه عرف حجم الكتاب وشكله وهوامشه، أليس كتاب يهز الأرض خيرا من وظيفة وإن هزت الأرض؟ كل المتعلمين يعرفون سقراط، ولكن من منهم يعرف القضاة الذين حاكموه؟
5 - مساء النور!
لا تجيب! هذا ما قدرته وما أنا به عليم، هي البداية دائما ... منذ قديم وإلى الأبد، ها هي توليك ظهرها، ابتعدت عن الحائط نحو حبل الغسيل، تحبك المشابك، ألم تحبكيها من قبل؟ ... بلى، ولكنك تدارين موقفك، إني أفهم كل الفهم، عشرة أعوام في المجون ليست بالخبرة القليلة، متع عينيك بمنظرها قبل أن يستقر الظلام الزاحف فلا تبدو إلا شبحا، سمنت واكتنزت، زادت حسنا عما كانت أيام صباها، كالغزال كانت، ولكنها لم تكن تملك هذه الأرداف العبلة، رويدا ... لم يزل لها من رشاقة البكارة نصيب محترم، ما عمرك يا شاطرة؟ زعم أهلك قديما أنك في سن خديجة، رأي خديجة أنك تكبرينها بسنوات وسنوات. امرأة أبي تؤكد هذه الأيام أنك في الثلاثين مستشهدة بذكريات قديمة من نوع: أيام كنت حبلى في خديجة كانت صبية في الخامسة ... إلخ، ما قيمة العمر؟ هل أنت ستعاشرها حتى الكبر؟ في الأيام القصيرة تستوي الشابة والنصف، جميلة وجذابة ومشبعة دسمة، آه، نظرت صوب الطريق ولحظتك، أرأيت مقلتها وهي تلحظك كالدجاجة؟ لن أبرح موقفي يا مليحة، فتى تعرفين الشيء الكثير عن جماله وقوته وماله، أليس هو خيرا من ذلك الإنجليزي القديم ...؟ - هل التحية عندكم لا تستحق ردا ولو بمثلها؟
Неизвестная страница