تراءى له شبح أبيه على بسطة الدور الأول، على حين لاح ضوء المصباح الذي تمسك به الأم في أعلى السلم، ونظر السيد إليه من فوق الدرابزين، وهو يتساءل في دهش: كمال؟ ... ما الذي أخرك خارج البيت حتى هذه الساعة؟
أخرني الذي أخرك.
قال بإشفاق: ذهبت إلى المسرح لأشهد التمثيلية المقررة علينا هذا العام.
فصاح ساخطا: هل أصبحت المذاكرة في المسارح؟ ألا يكفي أن تقرأ وتحفظ؟ كلام فارغ سمج، ولم لم تستأذني؟
توقف كمال على بعد درجات من موقف أبيه، وقال معتذرا: لم أتوقع أن تمتد السهرة إلى هذه الساعة المتأخرة.
فقال الرجل بغضب: شف لك طريقة أخرى للمذاكرة ودعك من الأعذار السخيفة.
ومضى يرقى في السلم وهو يدمدم، فترامت إليه كلمات من دمدمته مثل «مذاكرة المسارح على آخر الزمن»، «الساعة واحدة بعد منتصف الليل»، «حتى الأطفال»، «ملعون أبوك وأبو التمثيلية المقررة». ارتقى السلم حتى الدور الأخير ومضى إلى الصالة، فتناول مصباحا مضاء من فوق منضدة ودخل حجرته مكفهر الوجه. وضع المصباح على المكتب ووقف مستندا بكلتا يديه يتساءل عن تاريخ آخر شتيمة قذفه بها أبوه فلم يتذكره على وجه التحديد، ولكنه كان واثقا من أن سنوات دراسته العالية مرت في سلام وكرامة؛ ولذلك وقعت اللعنة من نفسه - رغم أنه لم يواجه بها - موقعا أليما. وتحول عن مكتبه فخلع طربوشه وشرع في نزع ملابسه، وعلى حين فجأة شعر بدوار في رأسه وجزع في معدته، فغادر الحجرة مسرعا إلى الحمام حيث قذف جوفه بما فيه في عنف ومرارة. وعاد إلى الحجرة مرة أخرى منهوك القوى، متقزز النفس، يجد في صدره ألما أشد وأعمق، وخلع ملابسه وأطفأ المصباح، ثم استلقى على الفراش وهو ينفخ في ضيق وضجر، ولكن لم تمض دقائق حتى سمع الباب وهو يفتح برفق، ثم جاءه صوت أمه متسائلا في إشفاق: نمت؟
فقال بلهجة طبيعية راضية ليصرفها عنه ويخلو إلى ما هو فيه: نعم.
فتدانى شبحها من الفراش حتى وقفت فوق رأسه، ثم قالت كالمعتذرة: لا تتكدر، أنت أعلم الناس بأبيك. - مفهوم مفهوم.
فقالت وكأنما أرادت أن تفصح عما ساورها هي: إنه مطلع على جدك واستقامتك، ومن هنا جاء إنكاره لتأخرك غير المألوف حتى هذه الساعة.
Неизвестная страница