في الحجرة هرع إلى الكنبة فتهالك عليها، ثم تخلص من عصاه وخلع طربوشه، وطرح قذاله على المسند مادا ساقيه إلى الأمام حتى انحسر جناحا الجبة عن قفطانه، وكشف القفطان عن رجلي سرواله المتداخلتين في جوربه، وأغمض عينيه وهو يجفف بمنديله جبهته وخديه وعنقه. على حين كانت أمينة تضع المصباح على الخوان، ثم وقفت تترقب قيامه لتساعده في نزع ثيابه، وهي تنظر إليه باهتمام مشوب بقلق، وتود لو تواتيها شجاعتها فتسأله أن يعفي نفسه من الدأب على السهر الذي لم تعد تنهض به صحته بالاستخفاف المعهود قديما، ولكنها لم تدر كيف تفصح عن أفكارها الأسيفة! توالت دقائق قبل أن يفتح عينيه، ثم نزع الساعة الذهبية من قفطانه، والخاتم الماسي؛ فأودعهما داخل الطربوش، ثم نهض ليخلع الجبة والقفطان بمعاونة أمينة، هناك بدا جسمه كالعهد به: طولا، وعرضا، وامتلاء ... لولا شعيرات اغتصبها المشيب من فوديه، وعندما أدخل رأسه في طاقة الجلباب الأبيض غلبه الابتسام فجأة، إذ ذكر كيف تقيأ السيد علي عبد الرحيم الليلة في مجلس الأنس، وكيف جعل يعتذر عن ضعفه ببرد أصاب معدته. وكيف تعمدوا أن يعيروه به زاعمين أنه لم يعد يحتمل الشراب، وأنه ليس كل الرجال من يستطيعون معاشرة الخمر إلى نهاية العمر ... إلخ إلخ، وذكر كيف غضب السيد علي وجد في دفع الريبة عنه، يا عجبا ... ألهذا الحد يعير بعض الناس أهمية لهذه الأمور التوافه؟! ولكن إذا لم يكن ذلك كذلك! فلم فاخر هو في صخب الحديث الضاحك بأنه يستطيع أن يشرب حانة دون أن تضطرب له معدة؟
جلس على الكنبة مرة أخرى، ومد ساقيه للمرأة التي راحت تخلع الحذاء والجورب، وغابت عن الحجرة قليلا، وعادت بالطست والإبريق، وجعلت تصب له الماء فيغسل رأسه ووجهه وعنقه ويتمضمض، وأخيرا تربع في جلسته مستعرضا نسمة الهواء التي تهفو في لطف ما بين المشربية والنافذة المطلة على الفناء. - يا له من صيف فظيع، صيف هذا العام!
فقالت أمينة وهي تسحب الشلتة من تحت السرير، وتتربع بدورها عليها على كثب من قدميه: ربنا يلطف بنا (ثم وهي تتنهد) الدنيا كلها كوم وحجرة الفرن كوم! السطح هو المتنفس الوحيد في الصيف بعد مغيب الشمس.
بدت في جلستها غيرها بالأمس، نحفت واستطال وجهها، أو لعله تراءى أطول مما هو لما حل بالخدين من رقة، وقد انتشر المشيب فيما انحسر عنه منديل رأسها من خصلات، فأضفى عليها روح كبر أكثر مما تستحق ... وغلظت الشامة في وجنتها قليلا، على حين نمت عيناها - إلى نظرة الخضوع القديمة - عن شرود مزج بالحزن، كما اشتدت حيرتها لما طرأ عليها من تغير، ولئن كانت قد رحبت به بادئ الأمر على سبيل التعزي، إلا أنها أخذت تتساءل في قلق: أليست هي في حاجة إلى صحتها ما دام في العمر بقية؟ بلى! والآخرون في حاجة إلى صحتها أيضا، ولكن كيف يعاد الشيء إلى أصله؟ ثم إنها تقدمت سنين، لعلها لم تكن بالكثرة التي تبرر هذا التغير، ولكنها مما يترك أثرا ولا شك.
هكذا كانت تقف في المشربية الليالي المتعاقبة تراقب الطريق من وراء الخصاص، فترى طريقا لا يتغير، والتغير يدب إليها غير متوان، وعلا صوت النادل في القهوة؛ فتطاير إلى الحجرة الصامتة كالصدى، فابتسمت وهي تسترق النظر إلى السيد.
ما أحب هذا الطريق الذي يسهر الليالي سامرا إلى قلبها! إنه الصديق الغافل عن القلب الذي يحبه من وراء خصاص، معالمه ملء نفسها، سماره أصوات حية تعيش في مسامعها، هذا النادل الذي لا يستكن له لسان، وذو الصوت المبحوح الذي يعقب على حوادث اليوم بلا تعب أو ضجر، وذو الصوت العصبي الذي يتصيد بخته في «الكومي» و«الولد»، ووالد هنية الطفلة المصابة بالسعال الديكي الذي يسأل عنها فيجيب ليلة بعد أخرى «عند الله الشفاء»، آه .. كأن المشربية ركن من القهوة هي جليسته. كانت ذكريات الطريق ترتسم على مخيلتها وراء عينين لا تفارقان الرأس المتوسد لمسند الكنبة، فلما انقطع التيار تركز انتباهها في الرجل؛ فتبينت في صفحتي وجهه حمرة شديدة اعتادت أن تطالعها في أعقاب الليالي الأخيرة، ولم تكن ترتاح إليها؛ فتساءلت في إشفاق: سيدي بخير؟
فاعتدل رأسه، وهو يتمتم: بخير، والحمد لله (مستدركا) ما أفظع الجو!
الزبيب خير مسكر في الصيف .. هكذا قالوا له وأعادوا، ولكنه لا يطيقه، فإما الويسكي وإلا فلا، عليه إذن أن يعاني خمار سكرة صيف - وصيف شديد - كل ليلة، شد ما ضحك هذه الليل ... ضحك حتى كلت عروق عنقه، ولكن فيم كان الضحك؟ لا يكاد يذكر شيئا، وليس هنالك شيء يروى أو يعاد، ولكن جو المجلس كان مشحونا بكهرباء لطيفة؛ بحيث إن أي لمسة كانت تحدث اشتعالا، فما هو إلا أن قال السيد إبراهيم الفار: «أبحر الإسكندرية من سعد اليوم إلى باريس»، وكان يقصد أن يقول: «أبحر سعد من الإسكندرية اليوم إلى باريس» حتى انفجروا ضاحكين، فعدت «نادرة» من نوادر الخمر اللسانية. وابتدروه قائلين: «وسيمكث في المفاوضة ريثما يسترد صحته، ثم يبحر إلى الدعوة تلبية للندن التي تلقاها من» أو «وسينال رامزاي مكدونالد من الاستقلال على الموافقة» و«سيعود حاملا مصر إلى الاستقلال»، وجعلوا يتحدثون عن المفاوضة المنتظرة، ويعلقون عليها بما يحلو لهم من المداعبات.
حقا ... إن دنيا الأصدقاء على رحابتها تتلخص في ثلاثة: محمد عفت، وعلي عبد الرحيم، وإبراهيم الفار، فهل يستطيع أن يتصور للدنيا وجودا من دون وجودهم؟ إن إشراق وجوههم بالبشر الصادق حين رؤيته، سعادة لا تدانيها سعادة، التقت عيناه الحالمتان بعيني أمينة المستطلعتين، فقال وكأنه يذكرها بأمر هام: غدا.
فقالت، وقد شاعت في وجهها ابتسامة: كيف أنسى؟!
Неизвестная страница