تصول وتجول في ميادين الأسود، ثم تهزم أمام فأرة، أخف عارك حتى عن أقرب المقربين، واحمد الله على أن كل شيء قد انتهى.
لكن شيئا في الواقع لم ينته، لم تبرح مخيلته، وصح لديه فيما تلا ذلك من أيام أن تفكيره فيها لم يكن مجردا، ولكنه اقترن بألم عميق تزايد وتفشى، وصح لديه أيضا أن ذلك الألم لم يكن غضبا لكرامته فحسب، ولكن كان ألم الحسرة والحنين، وأنه فيما بدا عاطفة طاغية لا تقتنع بأقل من تدمير من يعانيها. بيد أنه كان شديد الاعتزاز بما سجل ساعة انتصاره، فمنى نفسه بقهر مشاعره المستبدة الخائنة في مهلة تطول أو تقصر كيفما اتفق. ومهما يكن من أمر فقد غادره السلام فأمضى وقته متفكرا مجترا أحزانه، معذبا بخيالاته وذكرياته. وكان يبلغ به الضعف أحيانا أن يفكر في مصارحة محمد عفت بما ينوء به من آلام، بل تمادى به الخاطر مرة إلى حد الاستعانة بزبيدة نفسها ، ولكنها كانت فترات ضعف كنوبات الحمى، ثم يفيق إلى نفسه وهو يهز رأسه متعجبا متحيرا.
وقد صبغت أزمته سلوكه العام بلون من القسوة قاومه ما استطاع بحلمه وكياسته، فلم يفلت منه الزمام إلا قليلا، وهذا القليل لم يلحظه إلا الأصدقاء والمعارف الذين ألفوا منه الدماثة والتسامح والرقة، أما أهل بيته فلم يفطنوا إلى شيء؛ لأن سلوكه حيالهم بقي هو هو لم يكد يتغير؛ إذ إن الذي تغير حقا هو العاطفة المستترة وراءه فاستحالت من شدة مصطنعة إلى شدة حقيقية لم يدرك مداها سواه. على أنه هو نفسه لم ينج من قسوته هذه، بل لعله كان هدفها الأول، فيما حمل به على نفسه من تقريع وما عبرها به من مهانة، وأخيرا بما أخذ يفر به رويدا رويدا من ذله وتعاسته وهجران شبابه. ثم يعزي نفسه فيقول: لن أتحرك، لن أسيم نفسي مزيدا من الذل، فلتدر بي الأفكار كل مدار، ولتنقلب بي العواطف كل منقلب، ولأبقين حيث أنا لا يعلم بألمي إلا الله الغفور الرحيم. لكنه ما يدري إلا وهو يسائل نفسه: ترى ألا تزال في العوامة أم تركتها؟ وإذا كانت بها، فهل ما يزال لديها بقية من ماله تغنيها عن الناس، أم يكون الرجل قد لحق بها هنالك؟ تساءل كثيرا وفي كل مرة يلقى عذابا ينفذ من روحه إلى لحمه وعظمه فيهصره هصرا. لم يكن يجد شيئا من القرار إلا عند استحضاره المنظر الأخير في العوامة الذي أوهمها فيه - وتوهم - أنه نبذها وعلا عليها، ولكنه كان يستدعي مناظر أخرى سجلت ذله وضعفه، ومناظر غيرها سجلت ألوانا من السعادة لا تنسى. وخلق الخيال له مناظر جديدة التقيا فيها، فتشاجرا وتحاسبا وتعاتبا، ثم أدركهما سلام الصلح والوصال ... حلم كثيرا ما يتراءى له في عالم الباطن الزاجر بما لا يحصى من ألوان الشقاء والسعادة. لم لا يتأكد بنفسه مما طرأ على العوامة وسكانها؟ في الظلام يستطيع أن يسير هنالك دون أن يراه أحد.
وذهب متسترا بالظلام كاللص، فمر أمام العوامة، ورأى النور يوصوص من خصائص النافذة، ولكنه لم يدر إن كانت هي التي تستضيء به أم ساكن جديد، بيد أن قلبه شعر بأن النور نورها هي دون غيرها، وخيل إليه وهو يتطلع إلى العوامة أنه يستشف روح صاحبتها، وأنه ليس بينه وبين رؤيتها رؤية العين إلا أن يطرق الباب فيفتح عن وجهها كما كان يفتح في الأيام الذاهبة، السعيد منها والتعيس على السواء، ولكن ما عسى أن يفعل لو طالعه وجه الرجل؟ حقا إنها قريبة ولكن ما أبعدها! وقد حرم عليه هذا المعبر إلى الأبد. آه ... هل مرت به هذه الحالة في حلم من الأحلام؟! قالت له: اذهب، قالتها من قلبها، ثم مضت في سبيلها كأنه لم يعرض لها يوما، وكأنها لا تشعر له بوجود! إذا كان الإنسان بهذه القسوة، فكيف يتطلع إلى طلب الرحمة أو المغفرة!
وذهب مرات ومرات حتى صار التردد أمام العوامة بعد جثوم الليل عادة يمر بها قبل ذهابه إلى مجلس الإخوان، ولم يبد عليه أنه يريد أن يفعل شيئا ذا بال، وكأنه كان يرضي بها حب استطلاع عقيم جنوني، وكان يهم بالعودة مرة إذ انفتح الباب وخرج شبح لم يتبينه في الظلام، فدق قلبه في خوف ورجاء، ثم عبر الطريق مسرعا ووقف في جوار شجرة وعيناه تحملقان في الظلام. قطع الشبح المعبر الخشبي إلى الطريق ثم سار في اتجاه جسر الزمالك، فوضح له أنه امرأة ... وحدثه قلبه بأنها هي، وتبعها عن بعد وهو لا يدري على أي وجه تنتهي الليلة، هي أو غيرها فماذا يقصد؟ غير أنه واصل سيره مركزا انتباهه في شبحها. ولما بلغت الجسر ودخلت في مرمى مصابيحه توكد إحساس قلبه وأيقن أنها زنوبة، غير أنها كانت ملتفة في الملاءة اللف التي تخلت عن ارتدائها طوال معاشرتها له. عجب لذلك وتساءل عن معناه فظن - ما أكثر ظنونه - وراءه أمرا. رآها تتجه إلى محطة ترام الجيزة وتنتظر، فسار محاذيا للحقول حتى جاوز الموضع قبالتها، ثم عبر إلى ناحيتها ووقف بعيدا عن مرمى بصرها. وجاء الترام فاستقلته، وعند ذاك هرول إليه فركب جاعلا مجلسه في نهاية المقعد المطلة على السلم ليراقب النازلين. وعند كل محطة راح يتطلع إلى الطريق، وقد زايله الإشفاق من اكتشاف أمره؛ لأنه حتى إذا وقع فقد فاتها أن تعلم أنه كان يرصدها أمام العوامة متجسسا. نزلت في العتبة الخضراء فنزل وراءها، ورآها تتجه إلى الموسكي مشيا على الأقدام، فتبعها على بعد مرحبا بظلمة الطريق. ترى هل عاودت الاتصال بخالتها؟ أم تراها ماضية إلى السيد الجديد؟ ولكن ماذا دعاها إلى الذهاب إليه وعندها عوامة تنادي العاشقين؟ وبلغت حي الحسين فضاعف انتباهه أن تضيع منه في زحمة الملاءات اللف. لم تستبن له غاية وراء هذه المطاردة الخفية، ولكن كان مدفوعا برغبة في الاستطلاع أليمة وعقيمة وإن تكن في نفس الوقت عنيفة لا تجدي معها المقاومة ... سارت أمام الجامع فاتجهت إلى حارة الوطاويط حيث يقل المارة ويلبد الشحاذون المتعبون، ثم إلى الجمالية حتى مالت إلى قصر الشوق فتبعها مشفقا من أن يلقاه ياسين في الطريق أو يراه من نافذة، فارتأى إن صادفه أن يزعم له أنه ذاهب لزيارة صديقه غنيم حميدو صاحب معصرة الزيوت وجار ياسين بقصر الشوق. وما يدري إلا وهي تنعطف إلى أول حارة، تلك الحارة التي لم يكن بها من بيت إلا بيت ياسين، فدق قلبه بقوة وثقلت قدماه، كان يعرف سكان الدورين الأول والثاني، وهما أسرتان لا يمكن أن تربطهما بزنوبة رابطة. وزاغ بصره قلقا واضطرابا، غير أنه وجد نفسه يميل إلى العطفة غير مقدر للعواقب، فاتجه نحو الباب حتى ترامى إلى سمعه وقع الأقدام الصاعدة، ثم دخل بئر السلم رافعا رأسه منصتا إلى وقع الأقدام فشعر بمرورها بالباب الأول ثم الثاني، ثم وهي تطرق باب ياسين!
تسمر في مكانه وهو يلهث، فدار رأسه وشعر بخور وتهدم، ثم تنهد من الأعماق، وانتزع نفسه من موضعه راجعا من حيث أتى، وقد غاب الطريق عن عينيه في زحمة الأفكار، وارتطام الخواطر.
ياسين كان الرجل! فترى هل علمت زنوبة بعلاقته الأبوية بياسين؟ وراح يدفع الطمأنينة في نفسه كما يدفع سدادا غليظا في فوهة ضيقة قائلا: إنه لم يجر على لسانه ذكر لأحد أبنائه أمامها، فضلا عن أنه من غير المعقول أن يكون ياسين واقفا على سره، وإنه ليذكر كيف جاءه منذ أيام لينهي إليه طلاق مريم، فطالعه بوجه المذنب المرتبك، ولكن في براءة وإخلاص لا تشوبهما شائبة، وإنه ليفترض كل شيء إلا أن يقدم ياسين على خيانته وهو عالم بما يفعل، بل من أين لياسين أن يعلم بأن أباه ذو صلة أو كان ذا صلة بأي امرأة في الوجود، فله أن يطمئن من هذه الناحية، وحتى إذا كانت زنوبة قد عرفت علاقته بياسين، أو إذا عرفتها يوما من الأيام، فلن تطلع ياسين على سر خليق بأن يقطع ما بينهما، وواصل السير مؤجلا الذهاب إلى الإخوان ريثما يسترد أنفاسه، ويملك جنانه فمضى في اتجاه العتبة على تعبه وإعيائه.
أردت أن تعرف وها أنت قد عرفت، ألم يكن الأفضل أن تنفض يديك من الأمر كله قانعا بالصبر؟ احمد الله على أن الظروف لم تجمعك بياسين وجها لوجه في بؤرة الفضيحة، كان ياسين هو الرجل، متى عرفته؟ وأين؟ وكم من مرة خانته معه وهو لا يدري؟ أسئلة لن تبحث لها عن جواب، افترض إذا شئت أسوأ الفروض، فلن يغير هذا من الأمر شيئا، وهل عرفها قبل أن يطلق مريم أم بعد الطلاق أم كانت الشيطانة الباعث على الطلاق؟ أسئلة أخرى لن تعرف الجواب عنها ولن تبحث عنه، فافترض أسوأ الفروض أيضا إراحة لرأسك المصدوع. ياسين كان الرجل! قال: إنه طلقها لقلة أدبها! كلام كان يمكن أن يعلل به طلاق زينب لو لم يطلع هو على السبب الحقيقي حال وقوعه، سوف تعرف الحقيقة يوما، ولكن ماذا يهمك من أمرها؟ ألا زلت مشغوفا بالجري وراء الحقيقة؟ أنت مبعثر الرأس معذب القلب، أيمكن أن تغار من ياسين؟ كلا، ليست هذه بالغيرة، على العكس مما تظن أنت خليق بالتعزي، إذا لم يكن بد من أن يكون لك قاتل فليكن ابنك هو قاتلك، ياسين جزء منك، جزء منك انهزم، وجزء منك انتصر، أنت المغلوب، وأنت الغالب، ياسين قلب مغزى المعركة، كنت تشرب كأسا مزاجها الألم والهزيمة فصار مزاجها الألم والهزيمة والفوز والعزاء، لن تتحسر على زنوبة بعد اليوم، غاليت في الاعتداد بنفسك، عاهد نفسك على ألا تسقط الزمن من حسابك بعد الآن، ليتك تستطيع أن توجه هذه النصيحة إلى ياسين حتى لا يؤخذ على غرة إذا جاء دوره، أنت سعيد، لا داعي للندم، ينبغي أن تواجه الحياة بخطة جديدة، وقلب جديد، وعقل جديد. دع الراية في يد ياسين، وسوف تفيق من دوارك ويمضي كل شيء وكأنه لم يكن، لن يتاح لك أن تجعل من حوادث الأيام الأخيرة حديثا يدار على مائدة الإخوان كسابق عهدك، علمتك هذه الأيام المخيفة أن تطوي الصدر على أمور كثيرة، آه ... ما أعظم تشوقي إلى الشراب!
أثبت السيد أحمد في الأيام التالية أنه أقوى مما اعترضه من أحداث، فسار في طريقه قدما، وقد ترامت إليه أنباء طلاق ياسين على حقيقتها من السيد علي عبد الرحيم نقلا عن غنيم حميدو وآخرين، وإن لم يتعرف الراوون على حقيقة المرأة التي نجم عن مغامرتها طلاق الزوجة. وابتسم السيد، وضحك طويلا من كل شيء، وكان ماضيا إلى بيت محمد عفت - ذات مساء - حين شعر بثقل قبيح في أعلى الظهر والرأس حتى لهث. لم يكن الأمر جديدا كل الجدة، فقد جعل الصداع ينتابه كثيرا في الأيام السابقة، ولكنه لم يشتد عليه كهذه المرة. ولما شكا حاله إلى محمد عفت أمر له بقدح من شراب الليمون المثلوج. وأمضى سهرته حتى نهايتها. ولكنه استيقظ في اليوم التالي أسوأ حالا من الأمس، وبلغ به الضجر أن فكر في استشارة الطبيب، والواقع أنه لم يكن يفكر في استشارة الطبيب إلا حين الضرورة القصوى.
31
Неизвестная страница