قال بهدوء حزين: أنت أعز علي من نفسي. - كلام سمعنا منه الكثير. - ولكنه صدق وحق. - آن لي أن أعرف هذا من غير اللسان.
غض بصره في كرب ويأس، لم يكن يدري كيف يقبل ولم يكن بوسعه أن يرفض، وكان حرصه عليها من وراء ذلك يغله ويشتت فكره، قال بصوت خفيض: أعطني مهلة كي أدبر أمري.
فقالت بهدوء وهي تخفي ابتسامة ماكرة: لو كنت تحبني حقا ما ترددت.
فقال بعجلة: ليس هذا، أعني أموري الأخرى.
وحرك يده كأنما يفسر بها قوله، وإن كان لا يدري على وجه التحديد ما تعني، فابتسمت قائلة: إذا كان الأمر كذلك فأنا رهن انتظارك.
فشعر براحة وقتية، كالراحة التي يجدها الملاكم الموشك على السقوط إذا أدركه الجرس المؤذن بانتهاء الجولة غير الأخيرة. وانبعثت في نفسه رغبة إلى الترويح عن همه والتنفيس عن قلقه، فقال لها وهو يمد نحوها يده: تعالي إلى جانبي.
فتراجعت في مقعدها إلى الوراء بإصرار وهي تقول: عندما يأذن الله.
29
غادر العوامة يشق سبيله في ظلام، فسار وشاطئ النيل في طريق مقفر متجها إلى جسر الزمالك، كان الهواء يهفو لطيفا فنفخ رأسه الملتهب، وبعث في أغصان الأشجار الهائلة المتشابكة حركة وانية ند عنها هسيس كالهمس، وكانت تبدو في الظلام كالكثبان أو السحب الجون، كلما رفع رأسه وجدها مطبقة عليه كالهم الجاثم على صدره. وهذه الأضواء المنبعثة من نوافذ العوامات هل تنبعث من بيوت خلت من الهم؟ ولكن ليس كهمك هم، ليس من يموت كمن ينتحر، وأنت بلا جدال قد وافقت على الانتحار. واصل السير، لم يكن أحب إليه وقتذاك من المشي ليريح أعصابه ويستعيد أفكاره قبل أن يمضي إلى الإخوان، وهنالك يخلو إليهم ويكاشفهم بكل شيء، لن يقدم على هذه الخطوة حتى يشاورهم وإن خمن سلفا ما سيقولون، ولكنه سيعترف أمامهم مهما كلفه الأمر، وإنه ليجد إلى مكاشفتهم رغبة دافعة كأنها استغاثة غريق يتخطفه الموج العاتي. لم يغب عنه أنه يعد في حكم الموافق على الزواج من زنوبة، ولم ينكر شعوره الذليل بالرغبة فيها والحرص عليها، ولكنه لم يتصور كيف يمكن أن يتحقق هذا في صورة زواج رسمي، ولا كيف يزف البشرى إلى الأهل والأبناء والناس جميعا. ومع أنه كان يريد أن يطيل المشي ما وسعه ذلك إلا أنه اندفع يسير بسرعة، وفي خطوات واسعة، وعصاه تضرب الأرض التربة كأنما يتعجل الذهاب إلى هدف ولا هدف له. تأبت عليه وصدته! هل تغيب عن تجربته وحنكته هذه الأساليب؟ ... ولكن الضعيف يقع في الشرك وهو يدري. ومع أنه استجد بالمشي والهواء النقي بعض الراحة إلا أنه لم يزل مشتت الفكر مشعث الوجدان، ولم تزل الأفكار تطرق رأسه بغير انتظام حتى لم يعد يحتمل حاله فخيل إليه أنه سيجن إن لم يحسم الأمر بحل ولو يكن الضلال نفسه.
في هذا الظلام يستطيع أن يخاطب نفسه بلا تردد أو حياء، تحجبه الأغصان المتلاحمة عن السماء، وتواري خواطره الحقول المترامية إلى يمينه، ويبتلع مشاعره ماء النيل الجاري إلى يساره، ولكن حذار من النور، حذار أن تكتنفه هالة منه فينطلق كعربة السرك داعيا وراءه الغلمان وهواة العجائب، أما سمته وجلاله وكرامته فسلام الله عليها. كان ولم يزل ذا شخصيتين، يعيش بواحدة بين الإخوان والأحباب، ويطالع بالأخرى الأهل وسائر الناس، وهذه الأخيرة التي تمسك عليه جلاله ووقاره، وتقرر له منزلة لا يطمع إليها أحد، وهي هي التي تتآمر نزواته عليها وتهددها بالفناء الأبدي. وتراءى له الجسر بمصابيحه الوهاجة فتساءل: إلى أين؟ بيد أنه رغب في مزيد من الوحدة والظلام؛ فمر أمام الجسر إلى طريق الجيزة. ياسين! ذكره يرعبك، جبينك يحترق خجلا، لم؟ سيكون أول من يفهمك ويتسامح معك أم تراه يشمت بك ويتندر؟ طالما زجرته وأدبته، ولكن قدمه لم تنزلق بعد إلى مثل هاويتك! كمال؟ يجب أن تلقاه منذ الساعة بقناع غليظ أن يطلع على الذنب في أساريرك، خديجة وعائشة؟ سينكس منهما الجبين في بيت آل شوكت، زنوبة امرأة أبيك، زفاف يصفق له أهل المجون. في صدرك غوايات فاختر مسرحا غير دنياك لها، هل ثمة مملكة ظلام بعيدا عن متناول البشر كي تمارس رذائلك في سلام؟ غدا فلتنظر إلى نسيج العنكبوت لترى ماذا تبقى من الذبابة؟ استمع إلى نقيق الضفادع، وزفرات الصراصير، ما أسعد هذه الحشرات، كن حشرة لتسعد بلا حساب، أما فوق سطح الأرض فلن يسعدك إلا أن تكون «السيد» أحمد، مر الليلة بأهل بيتك جميعا ... زوجك ... كمال ... ياسين ... خديجة ... عائشة ... ثم كاشفهم بنيتك إن استطعت، وإن استطعت فاعقد زواجك بعد ذلك.
Неизвестная страница