ولم تستطع سهير أن تحتمل حزنها أكثر مما احتملت، لم تستطع أن تكتم الدموع الطافرة من عينيها، فأدارت وجهها عن أبيها، وانهملت دمعات صامتة، وألح الأب في السؤال، والدموع لا تزال تتزاحم في عيني سهير، حتى إذا عجزت عن وقف دفاعها جلست على سرير أبيها، وألقت برأسها على حافته، وقد تشبثت يداها بهذه الحافة وبكت، في همهمة خافتة أول الأمر، ثم ما لبثت أن انفجرت عن بكاء صاخب، تكاد تذرف فيه قلبها، وأمسك أبوها بها، واحتواها في صدره، فازداد بكاؤها عنفا، والأب الراسخ الصلب لا يجد ما يفعله سوى أن يربت كتفها، وقد ثارت في نفسه عاطفة الأبوة جياشة، رقراقة عنيفة، حتى لم يستطع وهو الرجل الذي عرك الحياة وعركته، إلى أن صار من الحوادث كالجبل الأشم، تدور به الرياح فلا تنال منه، لم يستطع أحمد باشا إلا أن يسكب دمعات، سارعت يده إلى تجفيفها قبل أن تراها ابنته.
وأحست سهير في حضن أبيها بعض راحة، وأحست أن بكاءها لن يفيدها شيئا إلا أن تعذب أباها، فتمالكت وانتفضت عن سرير أبيها إلى خارج الغرفة، لم تغب عنها كثيرا، بل هي تعود إلى الأب الحزين، وعلى شفتيها شبح ابتسامة باهتة، وتجد أباها يختم صلاته، فتجلس رانية إليه في حب، حتى إذا قام عن السجادة قالت: إن أكن قد آلمتك يا أبي هذا الصباح، فإني أحمل لك خبرا تفرح له. - والله يا بنتي لا أعلم أن شيئا يفرحني وأنت حزينة. - لا عليك مني يا أبي، إن سامي قد جاء الآن ويرجو لقاءك. - وأي شيء يفرح في هذا؟ - ألا تدري يا أبي، إنه يريد أن يخطب أختي سميحة، فبحياتي عليك يا أبي إلا قبلته. - سامي ابن حلال، ولكن هل سميحة تريده؟ - نعم يا أبي، إني سألتها. - هل أعتمد على قولك هذا وأقبله، وأحمل عن نفسي مئونة سؤالها وخجلها؟ - نعم يا أبي. - إذن فأرسلي إليه من يصعد به إلى هنا، وأخلوا له الطريق.
وما هي إلا دقائق، حتى صعد سامي إلى زوج عمته التي كانت قد صحت هي أيضا، وانضمت إلى زوجها في حجرته، وما هي إلا دقائق أخرى، حتى خرجت تفيدة هانم من الحجرة، وأعلنت إلى ابنتها سميحة أن أباها قد قبل خطبة سامي لها، وانطلقت الزغاريد في القصر، صاخبة فرحة هذه المرة، لا يعوق انطلاقها شيء.
وصحا سليمان من نومه على هذه الزغاريد، فظن أنها موجهة له، وحدث نفسه أنه لا يستحقها بعد، ولكنه لم يستطع أن يصرح، ووضع على نفسه معطف المنزل، وقصد إلى حجرة عمه، وهناك عرف ما أطلق هذه الزغاريد من عقالها، فهنأ سامي وأصابت نفسه غصة، فقد كان يعلم أن سامي أغنى منه، ولكنه تذكر ما نال من عمه في أمسه، فثارت في نفسه فكرة جاهد أن يكتمها، إنه يريد أن يدعو زوجته إلى رحلة خارج القاهرة، يتمتعان فيها بشهر العسل، حتى يظهر لعمه أنه سينفذ أمره له بإظهار كرمه أمام زوجته، وحتى يستطيع أن يتيح لزوجته أن تأنس به من تلك الوحشة التي عرفها منها في ليلة البارحة، وكان يجاهد نفسه ألا ينفذ هذا العزم، حرصا على الأموال، واحتفاظا بها، ليشتري قطعة أرض يضيفها إلى تلك الأفدنة القليلة التي تركها له أبوه.
وبينما كانت هذه الأفكار تتصارع في نفس سليمان، كان القصر يموج في فرحة غامرة، فسهير مع سميحة تحضنها، وتبكي بكاء اختلط فيه الفرح بالحزن ... فرح بأختها وحزن على نفسها، وتجيبها سميحة بالبكاء، لا يبتعثه إلا الفرح الخالص، تشوبه الأحلام الوردية، عن الهناءة التي ترنو إليها في ظل هذا الزواج السعيد.
وكانت الأم فرحة هي أيضا، فرحة بريئة ساذجة، ولكنها لم تسعد بهذا الفرح كثيرا، فهي تنظر إلى وجه زوجها فتجد فيه ألما يجاهد في إخفائه. - خير يا باشا، أنت متعب؟ - والله يا تفيدة نعم. - وما لك لا تقول؟ - اتركي البنات يفرحن. - البنات لا يفرحن إلا بك يا باشا، صحتك أهم من كل شيء.
وانكتم الفرح في الصدور، وانكتم معه حزن سهير، وحيرة سليمان الذي وجد في مرض الباشا قرارا حاسما، إذ لا يمكن أن يدعو زوجته إلى رحلة وأبوها مريض.
وسرعان ما جاء الأطباء، وهرول سامي ليشتري الدواء، وتكاسل سليمان متظاهرا أنه يريد أن يظل إلى جانب عمه، مرتئيا في هذا العذر إعفاء له من دفع ثمن الدواء، وجاء الدواء، ولكن متى نفع الدواء، وقضاء الله مقضي، سبحانه يهب الحياة ويختارها إلى جواره، هو وحده صاحب الأمر فيها مبتدئة ومنتهية.
الفصل العاشر
لم يستطع شيء أن يعوق سليمان عن حقوق الزواج، وإن يكن الحزن قد أجل نيل حقوقه بضعة أشهر، ولكن أين المهرب لسهير والحياة طويلة، ما الشهور فيها إلا قطعة صغيرة من الزمن، يبتلعها الزمن، ويبقى الزمن، وتبقى الحياة، ويبقى زوجها، وتبقى حقوقه، وقد نالها، ولكن سهير كانت تحس دائما أنها كأنما ترتكب إثما حرمه الله، كان يداخلها شعور بالخزي والعار، ولولا أن عقلها ما يلبث أن يذكرها بأنها أوامر الله لما زايل هذا الشعور نفسها.
Неизвестная страница