ليس هذا أسلوبا يخطب به الفتى الفتاة إلى أبيها، ولم يكن الباشا يقدر أن وصفي سيخطب غير واحدة من ابنتيه، وانتفض قلب سليمان ذعرا متخيلا أن وصفي سيخطب سهير، ولم يتح وصفي لهذه المشاعر أن تبلغ مداها، بل سارع قائلا: لقد خطبت اليوم هند بنت إسماعيل باشا مصطفى.
وتمالك الباشا نفسه في سرعة قادرة مرن عليها في مجالات السياسة والحياة، وقال: مبروك.
ولم يستطع أن يزيد، بل لم يستطع أن يشفع التهنئة بابتسامة، أي ابتسامة مهما تكن باهتة، قالها مبروك، بريئة من كل فرح، مجردة من كل معنى للتهنئة، أما سليمان فقد جاهد نفسه أن يخفي فرحته وأطلق: مبروك.
تحمل سرورا عاتيا راقصا، ولكنها مع ذلك لم تكن تحمل كل ما في نفسه من سرور.
وأحس وصفي راحة إلى إلقاء هذا النبأ، راحة الحيران التائه يصل إلى مستقر، مهما يكن هذا المستقر مخالفا لما كان يتمنى، ولكنه مستقر على أية حال! أحس أنه أتم عزمه، وتغلب على قلبه، وأطمأن إلى مستقبله في ظلال بيت هادئ لا تدور فيه أعاصير الهوى، وإن كان يتمنى أن تترقرق فيه نسمات من الحب الناعم، تنمو ولا تذوي، وتكبر مع الزمن، ولكن في هدوء ووقار وإيناس.
ولم يلبث وصفي كثيرا، فقد أحس بالصدمة التي يعانيها عمه من خيبة الأمل، وبالفرح الذي يعاني سليمان في كتمانه أن أمله قد يتحقق.
وما إن بلغ وصفي الباب الكبير، حتى التقى هناك مرة ثانية في يومه هذا بأم وديدة ذاهلة حائرة، تتخفى منه في بقجتها، وتميل عن طريقه في ازورار، وأحس وصفي في أعماق نفسه كرها لأم وديدة، كرها شديدا لم يعرفه لأحد من قبل، إنها هي، هي وحدها التي فرقت بينه وبين هواه، إنها هي التي وضعت هذا الحائل بينه وبين سهير.
وأدرك وصفي أن النبأ في طريقه إلى سهير مع بقجة أم وديدة، وأحس حينئذ أن سهير ستحس هذا البغض نفسه نحو أم وديدة، وأحس فؤاده يختلج في صدره خلجة الطير الجريح، إنه سيجتمع هو وسهير على كره أم وديدة في وقت معا، كما اجتمع هو وسهير على حب أم وديدة في وقت معا.
الفصل السادس
صعدت أم وديدة إلى الطابق الأعلى، وهناك لقيتها الأسرة جميعها بالترحاب، وبخاصة سهير التي راحت تدور حولها في فرحة نشوانة، يبتعثها في نفسها هذا اللقاء الذي مهدت له أم وديدة في أمسهم الذاهب، ولم يكن فرح سميحة أخت سهير بأقل من فرح أختها بأم وديدة، فقد طالما كانت تهمس أم وديدة لسميحة أن أختها الكبرى ستتزوج عما قريب، وعما قريب ستلحق هي بها وتتزوج من فتى أحلامها سامي، الذي لا يمنعه عن طلبها إلا أن أختها الكبرى لم تتزوج بعد، ولم يكن فرح الأم بأقل من فرح البنتين، فقد كانت أم وديدة تقرأ لها الفنجان، وتطمئنها أن فرحين لا واحدا سيقامان عما قريب، بعد نقط ثلاث فقط، في القصر، فيطمئن مضطربها القلق، ويهدأ ثائرها المفزع دائما بتلك القالة التي تشيعها أخوات بناتها من زوجة الباشا الأولى، من سهير وسميحة ستظلان عانستين بلا زواج.
Неизвестная страница