طعام الإنسان يؤخذ مباشرة أو بالواسطة من النبات، وهو ذو خاصة تمكنه من تحويل ثاني أكسيد الكربون من الجو إلى المركبات الكيمية الضرورية لتغذية الإنسان، ونحن نأكل بعض النبات كالحبوب والخضر مباشرة، ونأكل بعضه بعد تحوله إلى اللحم واللبن والبيض في الحيوانات المدجنة، ويمكن أن يقال بعبارة أخرى: «كل لحم نبات.»
ولا بد للفرد الإنساني - ليعيش عيشة صحيحة عاملة - من ثلاثة آلاف سعر حرارة في اليوم، وعليه إذن أن يستنفد كل يوم ما يساوي نحو رطل وثمانية أعشار الرطل من النبات يحتوي سبعة أعشار الرطل من الكربون، وهو داخل على أشكال كثيرة في التركيبات التي يتكون منها النبات. فلا بد للفرد الإنساني إذن من مائتين وستين رطلا من الكربون كل سنة، ويتحول على ظهر الأرض في كل سنة نحو مائة وخمسين بليون طن كربون من ثاني أكسيد الكربون إلى مادة نباتية، وهو مقدار إذا استنفده الناس وخلصت فائدته كله للتغذية كان كافيا لتموين عدد من السكان يساوي خمسمائة ضعف الموجودين على الأرض في الوقت الحاضر، ولكن مصدره من ضوء الشمس يذهب كثير منه - لسوء الحظ - إلى ماء البحر، ولا ينتفع به الإنسان في طعامه، ولو بقي ما يقع على اليابسة من مصدره الشمسي وقفا على الغذاء لكان كافيا لعدد من الناس يساوي خمسين مثلا من سكان الأرض الموجودين، إذ كان من عادات الإنسان في التغذية أن يقصر طعامه على النبات المزروع، والحيوان الذي يتغذى وبه، ولا يستنفد هذا ولا ذاك أكثر من ربع مصادر الغذاء الضوئية التي تنصب على سطح الكرة الأرضية، على أن هذا القسط - لو خلص أيضا للتغذية - لكان كافيا لعشرة أمثال سكانها.
فمحصول الأرض الزراعية لا يكفينا الآن لما يصاب به من ألوان النقص في نظام تدبيرنا للأطعمة، إذ يستخدم نصف المحصول على وجه التقريب في إطعام الحيوانات الداجنة، وإنما يأكل الحيوان جزءا من النبات، ويعطينا منه أغذية حيوانية كاللحم واللبن والبيض ونحوها مما يتألف منه عشر أسعار الحرارة، أي إننا نعطي الحيوان مائة سعر يستنفد تسعين منها، ويعطينا عشرة.
ويعرض للمحصول نقص آخر من أن الإنسان لا يأكل جميع النبات، بل يأخذ حبة القمح مثلا ويدع القشور والجذور، ويقدر ما يأكله بنحو عشرين في المائة من جملته، وليس الغذاء بعد هذا خالصا للإنسان والحيوان الداجن؛ لأن الأحياء الأخرى من الحشرات وجراثيم الأوبئة تلتهم نحو الثلث من محصول النبات الذي كان للإنسان أن يستأثر به لولا ذاك، ولهذه العوارض لا يبقى من محصول الأرض إلا ما يكاد يكفي سكانها الموجودين.
والعالم في الواقع يربى محصوله من المادة الغذائية الصالحة على الحاجة الضرورية، إذ هو ينتج مائة وخمسين طنا لكل فرد إنساني لا تزيد حاجته منها على ثلاثة أعشار الطن الواحد، فلولا تلك العوارض لكان لدينا وفر من الطعام.
ويجري توزيع الطعام على حسب المواقع الأرضية، فيبلغ على الأرض الآن بليونين وأربعة أعشار البليون من الأفدنة المزروعة، أي فدان على وجه التقريب لكل إنسان، ولكن سكان الأرض موزعون توزيعا سيئا على هذه المساحة، فيخص الساكن في الولايات المتحدة فدانان مزروعان، ويخص الساكن في كندا حيث تتسع الأرض، ويقل السكان ثلاثة أفدنة وستة أعشار الفدان لكل ساكن، على حين أن الساكن في اليابان لا تزيد حصته على خمسي فدان من الأرض المزروعة، ولا تزيد حصة الساكن في القارة الآسيوية على خمسي فدان، أما في أوروبا الغربية فحصة الإنسان الفرد أقل من فدان.
وتستخرج المحاصيل من الأرض الزراعية في العالم على أساليب متفاوتة في الإنتاج، فنحن في الولايات المتحدة نحصل يوميا على نحو أربعة آلاف سعر من مادة الغذاء من الفدان الواحد، وهو مقدار يزيد على إنتاج آسيا الذي يبلغ أربعة آلاف سعر مع الفرق بين تربة الشرق والجنوب الشرقي حيث تزيد الأولى على الثانية، وتحصل أوروبا الغربية بوسائلها المركزة على مقدار يتفاوت بين سبعة آلاف وثمانية آلاف، وأشد ما يكون تركيز الوسائل الزراعية في اليابان حيث يؤتي الفدان ثلاثة عشر ألف سعر، أي نحو ثلاثة أمثال ونصف المثل من متوسط إنتاج الفدان في العالم، وهو ثلاثة آلاف وثمانمائة.
والأمريكي يطعم حيواناته معظم محصول أرضه من القمح والشوفان، ولا يستنفد طعام الإنسان منهما على حالتهما الطبيعية غير النزر القليل، إذ يأخذ الأمريكي نحو الثلث من أسعار غذائه من اللحم واللبن والبيض، وعلى خلاف ذلك الآسيوي الذي يأكل معظم نباتاته، ولا يزيد غذاؤه من المواد الحيوانية على خمسة في المائة، ويأتي الأوروبي وسطا بينهما، فيعطي الحيوانات ما يزيد على النصف بقليل، ويأخذ عشرين في المائة من أسعار الغذاء من المواد الحيوانية، وترتبط عادات التغذية بنسبة مساحة الأرض المزروعة، فلا يقدر السكان على ترف استخلاص الغذاء من الحيوان إلا حيث تزيد حصة الفرد الواحد من الأفدنة.
ولا يبدو أن الاختلاف في مقادير المحصول راجع إلى أسباب تتعلق بالخصب والإقليم، وإنما يرجع على الأرجح إلى درجة المعرفة الفنية ووفرة السكان، فنحن في الولايات المتحدة نعلم كل ما يعلمه اليابانيون من أساليب الزراعة، ولا نعنى مثل عنايتهم بتركيزها؛ لأن هذا التركيز لا تدعو إليه الضرورة بعد، مع زيادة حصة الفرد من الأفدنة، أما في آسيا - عدا اليابان - فالناس يجوعون، والحاجة تدعو إلى مضاعفة الإنتاج، ولكنهم لا يستخدمون وسائل التركيز لنقص المعرفة الفنية، وصعوبة الحصول على أدواتها التي يحصل عليها في أوروبا الغربية.
ويستعمل الأوروبي مقدارا من المخصبات يساوي أكثر من ضعف ما يستعمله الأمريكي، وما يستعمله الياباني يساوي ضعف ما يستعمله الأوروبي منها، وقلما تستعمل المخصبات في الهند لندرتها، وقلة ما يعلمه الفلاح الهندي عنها، ويقال مثل ذلك عن الخبرة بتحسين النبات على حساب وسائل إنمائه وتربيته ووقايته من الآفات والأوبئة؛ مما يجهله أبناء الأمم المتخلفة، وقد ساعد ارتقاء الآلات كما ساعد ارتقاء وسائل التربية والوقاية على توفير محاصيل النبات، ولكننا حريصون ألا نبالغ في جدوى الآلات فيما يتعلق بغلة الفدان، فإن أكبر ما تجديه الآلات أن تزيد المحصول بنسبة اليد العاملة، وتنقص ساعات العمل، فيخلو الوقت للاشتغال بأعمال الصناعة، وتلاحظ في الواقع علاقة وثيقة حيث تتقدم الصناعة بين نسبة التركيز وعدد الأيدي المتفرغة للزراعة. ففي اليابان التي تبلغ نسبة التركيز فيها أقصاها يستخدم نصف قوتها العاملة في إنتاج هذه النسبة، ويستخدم في أوروبا الغربية عدد يتراوح بين الربع والثلث، ولا يزيد عمال الزراعة في الولايات المتحدة على تسعة من كل مائة عامل، فلا غنى لتركيز وسائل الزرع من تركيز القوى العاملة.
Неизвестная страница