47

ونعود فنقول: إن النشوئيين قد يختلفون فيما بينهم، وقد يختلفون بينهم وبين غيرهم، ولكن الواقع الذي لا خلاف فيه أن الفارق بين الحيوان والإنسان مرتبط بتاريخ استخدامه للآلات، وأنه لولا قدرة الإنسان على صنع الآلات والاستعانة بها على مطالبه لما كانت له مزية تفرق بينه وبين العجماوات.

وننتقل من الإنسان الفرد إلى الإنسان الاجتماعي في الشعب أو الأمة.

إننا في غنى عن تتبع الأدوار التي مرت بها الصناعات لنعلم أنها كانت في كل دور من أدوارها مقياسا لحضارة الأمة، وعنوانا على المزايا الفكرية والخلقية التي تميزها على غيرها، وقد نعلم من عرض حالة الصناعة في دور واحد من أدوارها أن فوائدها المقصورة لا تستقصي جميع فوائدها، وإن الصناعات التي يتقنها الإنسان للحرب لا تلبث أن تدخل في عداد الصناعات التي يقوم عليها السلم ويقوم عليها العمران، ومن المشكوك فيه أن الصناعة كانت تتقن تطريق الحديد وتليينه على درجات من المرونة والمضاء لو لم تعمل على إتقان السيوف والحراب والدروع، فإن آلات الحرث والحفر تصنع بغير حاجة إلى الإمعان في أساليب التطريق والتليين، ولكن معالجة الحديد قد أغنت في صناعات السلم والعمران فوق غنائها في صناعات القتال والتدمير.

ولما نشأت صناعات البخار والكهرباء ظهر للآلات أثر جديد لم يكن منه بد لترقية الاجتماع، ولم تكن إليه وسيلة بغير «المكنة الضخمة» التي جاء بها إلى التاريخ عصر البخار والكهرباء، وهي تلك «الأداة الجهنمية» أو «تلك الأداة الشيطانية» كما وسمها الحكماء بمعزل عن حكمة التاريخ.

لقد كان بناء الصناعة الكبرى على المكنات الضخام مظهرا من مظاهر التوازن في المجتمع بين أصحاب الثروة الزراعية وأصحاب الثروة المعدنية وأصحاب الثروة التجارية، وكان قيام هذه الصناعة الكبرى دليلا على تكافؤ القوى بين أصحاب الضياع وأصحاب المعامل وأصحاب المتاجر والأسواق، ثم جاءت المكنة الضخمة بقوة جديدة لم تكن تعرف نفسها، ولم يكن أحد يعرفها، ولم يكن لها - لو عرفت - من سبيل إلى سماع صوتها، فقد جمعت المكنة الضخمة مئات الصناع وألوفهم في صعيد واحد، وكان اجتماعهم بهذا العدد في رابطة واحدة عدة حية تعتمد عليها الصناعات في انتظامها وتوفير إنتاجها، فتم التوازن الاجتماعي حيث اجتمعت هذه القوة للطوائف التي كان من السهل ظلمها ومن الصعب إنصافها، وهي متفرقة تدير آلاتها المفردة على حدة.

كان لأصحاب الأموال سلطانهم الذي لا يدفع، سواء كانوا من ذوي الثروة الزراعية، أو ذوي الثروة الصناعية، أو ذوي الثروة التجارية، وكانوا ربما تنافسوا بينهم فاضطرتهم المنافسة إلى الاعتدال في مطالب كل فريق منهم، ولكنهم كانوا إذا استبدوا بسطانهم يدا واحدا لم يردعهم رادع، ولم يعسر عليهم أن يجوروا بمطامعهم على حقوق غيرهم وعلى حدود الشريعة والعرف السديد، فكان قيام القوة الجديدة - قوة الأيدي العاملة - خيرا عميما يحقق مصالح الطوائف جميعا، ويجعل مسألة الإنصاف الاجتماعي مسألة لا تتوقف على حسن النية من طلاب الخير العميم.

بيد أنه كان خيرا لم يخلص من الشر في جميع الحالات، إذ كانت الصناعة الكبرى قد ظهرت في بلاد لا توازن فيها بين قوى الثروة المنوعة كما ظهرت في البلاد التي توازن فيها سلطان أصحاب الضياع وأصحاب المعامل وأصحاب المتاجر والأسواق، فكان ظهور القوة الجديدة سببا من أسباب الطغيان على المجتمع من الأدنى إلى الأعلى، بعد أن كان الخوف كل الخوف من طغيان العلية على من دونهم مالا وعلما، وقدرة على إسماع الصوت وإبلاغ الشكاية، وإحقاق الحقوق، وتبين مع شيوع الجهل والتنافر بين طوائف الأمة أن تسخير الجهلاء من المحرومين لعبة سهلة على من يحسن خداعهم وإثارة ضغائنهم واستغلال شكاياتهم، وقد يسخرهم دون أن يشبعهم أو يرفه عنهم؛ لأنه يشبع فيهم شهوات النقمة على من هو أحسن حالا وأكبر جاها وأدنى إلى رخاء المعيشة، وقلما يعنيهم أمر الحكومة الحرة؛ لأن فقدان الحرية لا يسلبهم شيئا يحرصون عليه من فكرة أو مبدأ أو متعة روحية.

ولا ريب أن الطغيان من الأدنى بغيض وخيم العاقبة كالطغيان من الأعلى أو أبغض وأوخم في عقباه البعيدة أو القريبة، ولكنه مع هذا ضرورة لا محيد عنها إذا كان هو الوسيلة التي لا وسيلة سواها لإنقاذ الملايين من مرارة الضيم والإهمال، وأنه ليهون خطبه - على فداحته - إذ بدا من ورائه أمل في زواله وتلطيف جرائره بعد الاستفادة منه في كبح طغيان الأقوياء على الضعفاء.

وعند «المكنة الضخمة» ترياق العلة التي جلبتها، ومنها يكون الدواء كما كان منها الداء.

إن المكنات الضخام لا تبقى طويلا على الصورة التي عهدها الناس منها لأول نشأتها.

Неизвестная страница