أخذ الغربيون اسم المدرسة من كلمة يونانية بمعنى الفراغ؛ لأن طلب العلم كان في الزمن القديم شاغلا من شواغل الفراغ يستطيعه من يستغني عن العمل أو يعجز عنه، فمن علامات الزمن أن تصبح المدرسة مدار العمل كله، لا يستغني عنه أحد في جميع الوظائف الاجتماعية، وتدعو إليه ضرورات المعيشة كما تدعو إليه مطالب الفهم والتهذيب.
لا بد من المصانع لتزويد العالم بمعرفة المعيشة، ولا بد من الخبراء والصناع لإدارة المصانع، ولا بد من المدرسة لتخريج الخبراء والصناع، ويكاد المختصون بتدبير مطالب التعليم الفني في الحاضر والمستقبل أن يشعروا بأن الحاجة أكثر من العدد المطلوب.
يقول مؤلفو كتاب مائة السنة التالية:
تعتبر الولايات المتحدة في الوقت الحاضر أدق المجتمعات تركيبا صناعيا في العالم، إذ تمهد الفرص التي تكاد لا تحصى للتعليم من شتى فروعه مع الحرية في اختيار الوظائف والأغراض الفنية، فإذا درسنا الموارد التي تؤخذ منها القوى الفكرية دراسة نقد وتحليل تسنى لنا أن نلم بمثال حسن لقضايا العرض والطلب في مسألة تدبير المهندسين والعلماء مع الحرية الاقتصادية.
ومنذ سنوات عدة يلاحظ النقص في عدد العلماء والمهندسين، وهو نقص يزداد حرجا، ولا نرى له الآن نهاية قريبة، وبلغ من حرجه أن المنظمات الصناعية تحد من جهود البحث والتحسين لقلة العاملين المدربين.
وتتباين الآراء عن السبب الصحيح لهذا النقص الحاضر، فيرى بعضهم أنه راجع إلى نقص المواليد في سنوات الكساد، وما تلاه من نقص الإقبال على معاهد التعليم العليا حوالي سنة 1950، ويرى آخرون أن كثرة الطلب على الخبراء من جراء النفقات الكبيرة على شئون الدفاع هي التي أدت إلى الشعور بذلك النقص، وسنرى - على أية حال - أن النقص إنما جاء من دقة التركيب الصناعي في الولايات المتحدة، وقصور وسائل التدريب، والتحضير عن مداركة الطلب على حسب الحاجة.
وبعد الإفاضة على هذا النحو في شرح وجوه الحاجة إلى الطاقة الفكرية، وازدياد هذه الحاجة على توالي الأيام عقد مؤلفو الكتاب فصلا بعنوان: «مدى الطاقة الفكرية المدخرة» بدءوه بهذا السؤال: ما هو أقصى ما يتيسر لنا من ذخيرة الطاقة الفكرية؟ ثم أجابوا عنه بما يلي:
إننا نستطيع أن نحصل على ضعفي عدد العلماء والمهندسين إذا أزلنا العوائق التي نتعرض من جرائها لنقص التعليم بين الفئة الصالحة لإتمام تعليم الكليات في العلوم والهندسة، ويتضاعف هذا العدد مرة أخرى إذا فتح باب التعليم الفني للنساء، وأمكن إغراؤهن بالإقبال عليه، وشجعن على هذا الإقبال، وهذه الزيادة المضاعفة تعطينا أربعة أمثال العدد الذي نخرجه الآن من العلماء والمهندسين دون أن نمس بمطالب الصناعات الأخرى، وكذلك يزداد نفع ذوي الكفايات الفنية إذا نحن أحسنا استخدام قواهم كما ينبغي، وشجعناهم على المزيد من الإنتاج والابتكار، فتصبح ذخيرتنا من الطاقة الفكرية ثمانية أضعاف ما نحصل عليه الآن، وقد تقدم أن لاحظنا أن المحصول السنوي وعدد المتخرجين من العلماء والمهندسين يبلغ عشرة أضعافه كل خمسين سنة في الولايات المتحدة منذ سنة 1800، وتساءلنا هل يمكن تكرار ذلك في نصف القرن الباقي منذ اليوم إلى سنة ألفين؟ فنقول: إن تكرار ذلك مرجح ، وإنه فيما يتعلق بالولايات المتحدة يستطاع الوصول إلى عشرة أضعاف ما لدينا من المحصول الفني، وعدد العلماء والمهندسين، وربما كان ذلك هو الختام.
ومن المهم أن ننبه أن هذه النتيجة ميسرة بغير حاجة إلى حمل الطلاب على ترك الدراسات الأخرى التي تساوي هذه الدراسات في اللزوم والفائدة، فليس في تقديرنا أن يزيد عدد الخريجين من العلماء والمهندسين، وأن تتغير نسبتهم المطردة منذ ثلاثين سنة، بل تبقى على حالتها إلى نهاية القرن العشرين.
ومن المهم كذلك أن نذكر أن المدد الذي يتوافر لنا من العلماء والمهندسين لن يظل على ازدياد إلى غير نهاية في المستقبل على نسبة هذه الزيادة فيما مضى، وفي أوروبا - كما في الولايات المتحدة - ينقص مدد الطاقة الفكرية، فيبلغ عدد العلماء والمهندسين في أوروبا الغربية أربعمائة وخمسة وعشرين ألفا من مجموعة السكان الذين يبلغون مائة وأربعة وخمسين مليون نسمة، ويقابل ذلك في الولايات المتحدة سبعمائة وستون ألف مهندس من عدد السكان الذي يبلغ مائة وثمانية وستين مليون نسمة، وينطبق على الحالة في القارة الأوروبية كل ما ينطبق عليها في الولايات المتحدة، مع ملاحظة الفارق بين التعليم الجامعي هناك، والتعليم الجامعي عندنا، ففي الولايات المتحدة يلاحظ أن ثلاثين في المائة من كل طبقة من طبقات السن ينبغي أن يتمموا التعليم في الكلية، على حين أن التعليم العالي في أوروبا مقصور على النخبة القليلة، ولا تزيد نسبة المتممين للتعليم بالكليات على خمسة في المائة، وسيزداد عدد العلماء والمهندسين زيادة كبيرة كلما اتسع نطاق التعليم الحر، وتمكن الطالب من المضي فيه إلى غاية استعداده.
Неизвестная страница