لم يعبأ أحد بكلامه، وأحاطوا به بمودة ظاهرة، ودعوا له بالسلامة فهتف ضاحكا: أمركم عجيب!
فقال له عمه، وكان أطعن الحاضرين في السن: ليته كان في الإمكان أن أسافر معك.
فقال بتأثر شديد: شكرا .. شكرا .. يؤسفني إزعاجكم، والمسألة لا تستحق.
وسألته خالته: لم لم تصطحب أمينة هانم معك؟ - أنا ذاهب لعمل، وهي البيت لا يستغني عنها.
ولم تكن الدهشة قد فارقته فتساءل: ولكن كيف عرفتم بالخبر؟ ولماذا تجشمتم هذا العناء؟
وأكثر من صوت قال: أهذا كلام يقال؟!
وأطلق القطار صفارة كالنذير، فلوح لهم مودعا، وصعد إلى المقطورة، وصعد معه بعضهم فوضع حقيبته فوق الرف، ووقف بينهم يتبادلون كلمات طيبة، وغادروا المكان واحدا في إثر واحد، وأغلق الباب، فتنهد في ارتياح واتخذ مجلسه. وتبين له لأول مرة أنه وحيد في العربة كلها، وأنها خالية من الركاب. يا للغرابة! لم يحدث أن قام القطار في الأعوام الأخيرة وبه مقعد واحد خال. ماذا حصل في الدنيا؟ وكيف يستقل قطارا خاليا وكأنه الملك في زمانه؟! حقا إنه يوم حافل بالمذهلات. وتحرك القطار .. انساب على مهل مفارقا المحطة والمودعين. وأخذت السرعة تزداد، والإيقاعات الرتيبة تهزج بلا انقطاع. سيجد وقتا لتأمل جميع ما مر به وفهمه. وتنهد متسائلا: ما معنى هذا كله؟!
رجل أفلس
غادر البيت الكبير ممتنا. توجه نحو الطريق الذي أشار إليه الوكيل عند حافة القرية. إنه طريق طويل ضيق يشق الخلاء بين ترعة تجري إلى يمينه، وحقول تترامى إلى يساره، ويفضي في النهاية إلى البيت الصيفي حيث يخلو صاحبه إلى نفسه أو يجتمع بنفر من خاصته. الجو يعبق بحنان الصيف المولي وبشائر الخريف، والشمس على وشك الاختفاء وراء الأفق ماسية اللون رفيقة الحاشية. المشوار غير قصير، والأرض متربة، ولكنه سيلقى الصديق الكبير بعد أن سدت السبل في وجهه واكفهر الجو، والفضل لعم محمد وكيل البك في تيسير مهمته وإرشاده إلى مقر صديقه. قال: ما كنت أدل غيرك على مكانه.
فشكره منوها بمودتهما القديمة . سار على هدي الخط الذي رسمته عجلات سيارة البك في الأديم المترب، والمساء يهبط وئيدا مجللا بهدوء عميق، يكدره نباح كلاب متقطع، والنخلات القليلة المبعثرة تذوب على مهل في الظلام الزاحف. وتراءى لعينيه شبح يتقدمه لا يدري من أين أتي. تباطأ في سيره ليبتعد عنه، ولكن الشبح تباطأ أكثر فيما بدا حتى قصرت المسافة بينهما، فوضحت معالمه عن امرأة تلتف بثوب أسود من العنق حتى الكعبين، وتدس رأسها في شال أسود كذلك، ولما التفتت نحوه طالعته بوجه ناضج في أواسط العمر، مقبول المنظر فياض بالأنوثة، وتأخرت حتى حاذته في مسيرته، وقالت: أنت ذاهب إلى لقاء جلال بك؟
Неизвестная страница