Сердце Ирака: путешествия и история
قلب العراق رحلات وتاريخ
Жанры
وها قد هجرتنا الشمس، ولا رفيق لنا غير الغبار. ولكننا بعد قليل وصلنا إلى خان بني سعد، في منتصف الطريق بين بغداد وجسر ديالي، فأوقفنا شرطي المخفر هناك، ورحب بنا قائلا: «لا سفر بعد الغروب، قانون جديد. إما أن تبيتوا هنا، وإما أن ترجعوا.» وقد أكد لنا أن الطريق غير أمين، وأن اللصوص لا يخشون مخفرا فيه شرطيان لا غير. فأفهمناه أننا مجازفون، وأن الأخطار لذة الأسفار، ثم أعطيناه أسماءنا - العفو - نحن السيد حسين أفنان سكرتير مجلس النظار. فسلم ثانية وقال: «بأمان الله.» وقد كان أفنان يحمل بندقية للصيد، والسائق سكينا، أبرزها ليزيدني اطمئنانا.
عاد يرافقنا اثنان - الغبار والقمر. وكنا نرتاح إلى ثالث هو صوت السيارة، ثم مررنا بجماعة من الناس، وهم مثلنا متخوفون، متوقعون القدر واللصوص. فبادرونا بالسلام بصوت عال، كأنهم يستنجدون بنا، ولوحوا بالأردان. فرددنا السلام بصوت أعلى، وطمأنهم السائق قائلا: «اللصوص أمامكم.»
وها قد دنونا من العمران. هو ذا جسر ديالى ومخفره، وهو ذا عدو اللصوص يسلم علينا، ثم جابي رسم المرور يلوح لنا بقنديله الأخضر. دفعنا الرسم وسمعناه يشكر ويدعو لنا بالسلامة.
بعد أن عبرنا الجسر سرنا في جادة ضيقة، مضيئة بأنوار ضئيلة من الكاز، أدت بنا إلى السوق - سوق بعقوبة المسقوفة، الحافلة بالمقاهي - وقد اكتظت بالناس. وكان السائق فرحا فخورا ببراعته، وسرعة سيره، كأنه لا يزال في الفلاة. وكنا نحن بشجاعته معجبين، وبجنونه راضين، وليس في السوق شرطي يعيده إلى رشده، ويذكرنا بأننا في قلب بعقوبة ، لا في البادية.
وما بعقوبة، وما قلب بعقوبة، بلا رمانها؟ كنت أتوقع أن نصطدم بطبق من الرمان، بدل كرسي وخوان. زمر يا رجل، زمر. ما جئنا بعقوبة غازين، ولا نحن من المحتلين. هؤلاء السمار إخواننا، ولهذه الأراكيل حق في السوق مثلنا. فقال السائق: «إذا زمرنا يا بك يجيء البوليس.»
وما كاد يفصح عن خوفه حتى بدا أمامنا الشرطي، والعين منه جاحظة، واليد مرفوعة آمرة. ممنوع السير، ممنوعة السيارات. وكيف يمكننا أن ندور لنرجع أدراجنا، إلا إذا دخلت السيارة أحد المقاهي؟ كلم السائق الشرطي ملاطفا، مجاملا، وصلى على النبي. فصلى الشرطي كذلك على النبي، وما لان. فهمس السائق إذ ذاك قائلا: السيد حسين أفنان سكرتير إلخ، فحوقل الشرطي، وأشار بيده أن سيروا بأمان الله.
وكانت السوق تزيد ضيقا وتقل نورا. وكنا نسمع الناس يستعيذون بالله، ويصلون على رسوله، ويحوقلون. وكنا نراهم يقفون واثبين، والأراكيل أو الكراسي بأيديهم فيلصقون بالجدران، أو يدخلون الخان أو الدكان، لنسير نحن بأمان. يا للفضيحة ويا للعار! إن جملا هائجا في مقهى، أو ثورا ثائرا في مطعم، لأقل فظاعة منا في سوق بعقوبة. ولكننا نحن والسوق ومن فيها خرجنا من الغمرة سالمين كلنا والحمد لله. وما كان من ذنبنا إلا أننا روعنا البعاقبة. وكدرنا جو سوقهم ساعة السمر.
وكدنا، ونحن متأخرون في الموعد، نكدر عيش مضيفنا، الذي كان في انتظار ضاقت دونه فسحة الصبر والأمل. فبادرنا، بعد السلام، إلى المائدة، وهو يقول: «خفنا عليكم، والله من قطاع الطريق.»
وما كانت المائدة، بزينتها وألوانها وخمرها، بعقوبية أو بغدادية. مائدة لا شرقية ولا غربية، بل جامعة بين محاسن القارتين وكنت أنا في سروري الوارف، أتشوف إلى السرور الأورف في ظلاله ونضارته. كنت أتخيل ما سيتبع الوليمة، وأنا أحسب نفسي، بعدما ذقت من غم المآدب الرسمية، مستحقا كل ما تجيء به أريحية الصديق الجميل. ولكني ما رأيت في الإيوان، ولا في من بدوا وتواروا هنا وهناك في الدار، ما يبرر الخيال والأمل. لا وجه من وجوه الحسان، ولا طيف لقين من القيان. لا، ولا سمعت همس راقصة وراء الستار، ولا خشخشة فستان أو إزار.
انتهى العشاء، وشربنا القهوة، ثم جاءت الأركيلة، ثم شيء من الشراب. وما لبث أن تثاءب السيد حسين أفنان - قدس الله سر أجداده - فقال الأخ فخري - دامت نجابته: «إنكم - ولا شك - تعبون من السفر.» ثم نهض يتقدمنا: «هذي هي غرفتك، يا حسين، وهذي هي غرفتك، يا أمين.» وكان الله محب المحسنين.
Неизвестная страница