فوضع الأمير يده على قبضة حسامه وهم باستلاله، ولكنه عاد فذكر قسمه وقوة خصمه، فترك الحسام وعاد إلى الكلام، فقال: «اعلم يا هذا أن الشريعة التي تفتخر أنت بأنها أعتقتك من نير الناموس قد قيدتك بقيود لا يتقيد بها العبد الذليل، وأي قيد أشد من أن يرتبط الرجل بامرأة واحدة مهما كانت أطوارها، ويضطر أن يساكنها مدى الحياة؟! أما نحن - معاشر المؤمنين - فقد حررنا نبينا بحرية إبراهيم أبينا، وأباح لنا التمتع بما ملكت أيماننا.»
فقال الفارس: «وحق مالكة فؤادي إنك في ضلال مبين. ألا تباهي بهذه الجوهرة التي في خاتمك؟!» فقال الأمير: «كيف لا أباهي بها وهي يتيمة بغداد والبصرة؟!» فقال الفارس: «أحسنت، ولكن لو ضربتها بمطرقة حتى تكسرت كسرا صغيرة ما كان لكل قطعة منها قيمة كما لها، ونحن يقف الواحد منا محبته على امرأة واحدة، فتبقى المحبة سليمة كالجوهرة، وأما أنتم فتنقسم محبتكم بين نسائكم.»
فقال الأمير: «لقد أسأت التشبيه؛ فإن هذه الجوهرة محاطة بجواهر أخرى أصغر منها كما ترى، فهي بمثابة الرجل والجواهر الصغيرة التي حولها بمثابة نسائه، فهو رأسهن وهن تزداد قيمتهن بانضمامهن إليه.» فقال الفارس: «لو رأيت نساءنا ما نطقت بمثل هذا الكلام؛ فإن جمالهن يثقف رماحنا، ويحدد سيوفنا، فباسمهن نحارب ومن أجلهن نتجرع كأس الحمام كأنها كأس الحياة، وما من فارس من فرساننا اشتهر بين أقرانه إلا وله حبيبة يحارب من أجلها.»
فقال الأمير: «قد سمعت كثيرا عن هذا الجنون الشائع بين فرسانكم، وما هو إلا من نوع الجنون الذي جاء بكم إلى هذه البلاد، وكنت أود أن أرى هؤلاء الجميلات اللواتي يختلبن قلوب الرجال ويصيرنهم أبطالا في مواقف القتال.»
فقال الفارس: «لو لم أكن ذاهبا في هذا الطريق لأخذتك إلى ريكارد ملك الإنكليز الذي يكرم كل شجاع، ولو كان من ألد أعدائه، وأريتك هنالك جمال نساء فرنسا وبريطانيا الذي يفوق بهاؤه بهاء هذه الجوهرة، كما يفوق نور الشمس نور الحباحب.»
فقال الأمير: «هلم معي إلى ملك الإنكليز، ولا تلق بنفسك في التهلكة؛ لأن الطريق الذي أنت فيه كثير المخاطر، ولا سيما إذا لم يكن معك إجازة من السلطان.»
فقال الفارس: «وما أدراك أن ليس معي إجازة؟» ثم أخرج رقعة من جيبه عليها ختم صلاح الدين سلطان مصر والشام. فتناولها الأمير من يده وقبلها ووضعها على رأسه ثم ردها إليه، وقال: «لقد أخطأت إذ لم ترني هذه الإجازة حالما التقيت بك.»
فقال الفارس: «إنك قابلتني مشرعا رمحك، وأنا لو هجمت علي كتيبة من كتائبكم كما هجمت أنت ما لاق بي أن ألتقيها بغير الحسام والقنا.»
فقال الأمير: «مهلا يا صاح، فإن واحدا من الكتيبة قد صدك عن مسيرك.» فأجابه الفارس: «نعم، ولكن هذا الواحد نادر المثال.»
فانشرح صدر الأمير وقال: «لقد أنصفتنا، فالحمد لله أننا لم نتمكن من إراقة دمك، وأنت حامل أمر ملك الملوك بيدك، وإلا لكان القتل جزاءنا لا محالة.»
Неизвестная страница