وتساءل محجوب في سره حانقا: هل تريدني أن أدعو الله أن يريحك من عملك؟ ثم قال بملق مبتسما: على قدر أهل العزم تأتي العزائم!
فهز الإخشيدي رأسه الكبير، وكان لا يني عن الإشادة بعظمته، والهزء بفضل الغير. وقد عرف بحدة اللسان ومهاجمة أعدائه وأصدقائه على السواء، وقد قيل عنه بحق إنه شيد حياته على العمل المتواصل، والدعاية لنفسه، والتشهير بمنافسيه، على أن أنانيته كانت تصور له أكثرية المتصلين به كمنافسين؛ ولذلك قل من نجا من شره. ولم يكن يأبه رأي الناس فيه، وكأنه يؤثر في بطنه أن يقال عنه ما أفظعه عن أن يقال ما أطيبه. وكان إذا بلغه قول سوء عنه يقول باحتقار: «كل عاشق حق مكروه.» هز رأسه الكبير وقال للشاب: عمل متصل، لكن هل كفاني شر الألسنة؟ ... هيهات ... ولن يفتأ قوم قائلين رقي الإخشيدي إلى الخامسة وما مضى في السادسة عامين!
فتظاهر محجوب بالإنكار وقال: وهل وضع نظام الأقدمية لقتل الكفاءات؟! - الظاهر أني في وزارة، والحقيقة أني في مزبلة. والآن يا عزيزي ما حاجتك؟
فازدرد محجوب ريقه، واعتدل في جلسته، ثم قال بلهجة تنم عن الرجاء: سالم بك، إنك جار قديم وزميل قديم، وملاذنا وقت الشدة. يا سعادة البك، والدي طريح الفراش، ونحن في بأساء، وأنا في أزمة مؤيسة، وقد نفدت نقودي؛ فدعني أسألك بعض المعونة ...
وتفحصه الإخشيدي بعينيه المستديرتين، فأدرك أنه جائع! ولكنه لم يتعود على أن يعطي أبدا، ولا عهد له بفن الإحسان، ولا كان من «الضعفاء» الذين تلين مظاهر البؤس من قلوبهم، فاعتبر الشاب وحاجته عائقا سخيفا اعتاق تيار أفكاره، فتوثب لمحوه، ولكن ماذا يجمل به أن يفعل؟ يعتذر له؟ ولكنه يكره الاعتذار خاصة لمن لا حول له، ثم تذكر أمرا فسأل الشاب: هل تجيد الفرنسية والإنجليزية؟
وشعر محجوب بخيبة رجاء؛ لأنه كان يتوقع شيئا آخر غير هذا السؤال؟ ولم يدر ما حكمة توجيهه إليه! ولكنه أجاب قائلا: نعم أجيدهما ... - حسنا ... أتعرف مجلة النجمة؟ ... صاحبها صديقي وزميلي، وربما رحب بك إكراما لي ... - هل أكلف بترجمة بعض الموضوعات؟ - نعم ... مقالات ... فكاهات. خذ بطاقتي هذه واذهب إليه! وسأحدثه عنك بالتليفون، ولا تؤاخذني؛ فأنا ذاهب لمقابلة البك وعرض أوراقي عليه ... أليس هذا أكرم بك وأنفع!
ونهض الإخشيدي قائما، وأخذ ملفا في يسراه، ومد يده للشاب، فمد له الشاب البائس يده وهو يسأله: أيدر هذا العمل ربحا معقولا؟
فضحك الإخشيدي - ولشد ما بدا لعينيه بغيضا - وقال: لعلك سمعت عن ثراء الصحفيين! على أنك ستجد ما أنت في مسيس الحاجة إليه ... وتقدمه الإخشيدي نحو الباب، فجزع جزعا شديدا، وأوشك أن يهتف به سائلا بضعة قروش، ولكن الباب فتح قبل ذلك، وبدا الساعي بجسمه الضخم الطويل، فغادر الحجرة حاملا البطاقة، وغادر الوزارة واجما متحيرا، ما زالت أزمته قائمة، ومجلة النجمة على فرض نجاح مسعاه إليها علاج آجل، فما العمل؟ ... وكيف يحصل على النقود؟ وكانت الساعة تدور في الثالثة، والجو بارد كما كان في الصباح، فخبط في الطريق على غير هدى، مثقل الرأس قانطا، وضاقت الدنيا في وجهه، حتى كور قبضته مهددا، وقال حانقا غاضبا بصوت أشبه بالنحيب: «سيدفع العالم ثمن هذه الآلام!» وقد أدرك أنه لم يبق إلا علي طه أو مأمون رضوان! ... لكم كره أن يمد لهما يدا، ولكنه لم يعد يملك حيلة، ولا بد مما ليس منه بد. ومضى إلى الترام متسائلا: أيهما يفضل؟! كلاهما شاب نبيل، ولكنه لا يحب علي، بينما لا يكره مأمون، وفضلا عن ذلك فمأمون رجل دين وورع؛ فهو حقيق بأن يصون سره، ويحفظه بالغيب، جدير بأن يغضي عنه إذا تأخر عن قضاء دينه.
ومضى إلى دار الطلبة، وقصد إلى حجرة مأمون رضوان، واستقبله الشاب بسرور وسأله: لماذا تغيبت اليوم عن الكلية؟
فقال محجوب: مكره أخاك، لشد ما أعاني من الاضطراب.
Неизвестная страница