بلادنا بلاد الشعر، والشعر كان مبدأ دخول العرب في الحضارة، لم يحرصوا على شيء حرصهم على روايته ودرايته، وأشد ما يكثر الشعراء في أرض صح إقليمها، واعتدل نسيمها، وطابت تربتها وأديمها، وصفت أمواهها وسنح نميرها، وكثرت ظلالها بأشجارها، وغردت أطيارها في أسحارها، وهذه الحالة على حصة موفورة في القطر الذي يتاخم جزيرة العرب من شمالها، فكان شعراء الشام وما يقاربها أشعر من شعراء العراق، وما يجاورها في الجاهلية والإسلام، والسبب في تبريزهم قديما وحديثا على من سواهم في الشعر قربهم - كما قالوا - من خطط العرب، ولا سيما أهل الحجاز، وبعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض إلا لسنة أهل العراق بمجاورة الفرس والنبط ومداخلتهم إياهم.
وإذا أضيفت إلى هذه الأسباب الطبيعية أسباب أخرى من تنشيط ملك، وإعجاب أمة بعمل العالم، أو الشاعر والكاتب، تفتحت القرائح وتجلى نبوغ الأفراد في أجمل مظاهره، كما جرى في أيام سيف الدولة الذي يشبه من كثير من الوجوه لويس الرابع عشر ملك فرنسا، هذا مع اعتبار الفرق بين العصرين، فإن ابن القرن التاسع لا يتأتى أن يكون مثل ابن القرن التاسع عشر، وابن غربي آسيا لا يصح بحال من الأحوال أن يشبه ابن غربي أوروبا، ولكن الرجال قد يتشابهون على كل حال، ووجه الشبه ظاهر بين الملكين، ولا سيما فيما يتعلق بالمعارف والآداب، ولكن عمل لويس الرابع عشر اتصل بعده، وما زال في نمو وعلو، وعمل سيف الدولة زال - ويا للأسف - بزواله، وهذا أهم فرق بين هذا الشرق وذاك الغرب، هناك يتسلسل الفكر قرونا، وهنا ينقطع ويتحول، هناك تتناوله الجماعات بعد الأفراد فتحسنه وتزيد فيه، وهنا يدفن مع صاحبه، ولا يبقى غير تذكاره، فعاش الشرق بالفرد وعاش الغرب بالجماعة.
لو ألهم سيف الدولة أن يقتصد قليلا من جوائز الشعراء فقط، خل عنك سائر إسرافاته، ويعمل فيها عملا يكل أمره إلى إبقاء الأجيال التي جاءت بعده، لأثر وحده في مدنية الشام أكثر من تأثير الرومان واليونان، ولما نسي اسمه إلا من دواوين الأدب وأسفار المحاضرات، ومن قام أمره بالاستبداد ولم يحفل بآراء أصحاب الرأي، تضمحل سلطته عند أول عارض داخلي أو خارجي يعرض لها. إن سيف الدولة مثل الاستبداد الممزوج بالعقل، وحب الأدب والشعر؛ لأنه كان شاعرا مجيدا، جيد الطبع، كريم النفس، وكانت فائدته الشخصية أقل من فائدة الآداب عامة على يده، وجعل الشهباء مركز دائرته، فأصبحت في سنين قليلة عاصمة الآداب، فأورثنا شعراء سيف الدولة وأورثوه مجدا لا يبلى على وجه الدهر جديده. ا.ه.
بين دمشق والقاهرة1
(1) سادتي الإخوان
يعجز البيان عن توفية صداقتكم حقها، ومقابلة عواطفكم الجميلة بمثلها ، فقد كسوتم وطنيكم هذا حلة تقصر عنها قامته، وظهر إحساسكم الشريف في مظهر أنساه ما لقيه من المشاق في سبيل الوصول إلى حماكم، فدمتم ودامت عوارفكم كهفا يلجأ إليه في الملمات، وعلم نور يستضاء به في الظلمات. ولقد كنت بيت العزم منذ شهرين أن أزور مصركم في الشتاء المقبلي؛ لألقى من خلفتهم فيها من خلص الأصدقاء مصريين وعثمانيين، ولكن قضت الأقدار أن أهبط مصر في صيفها وأهلها يرحلون عنها، على أن مصر حلوة في فصولها الأربعة؛ لأن السر في السكان لا في المكان، كما كنت أود أن أشخص إليها من طريق البحر المطروق في ست وثلاثين ساعة موفورة لي أسباب الراحة، لا أن أوافيها من طريق البر المهجور على مطية أقضي في السير والسرى من دمشق إلى القاهرة أربعة عشر يوما، وألقى فيها من فقد الراحة ما يلقاه في العادة السفار في القفار.
إن ما حملني على انتيابكم في هذه الحال تعرفونه بأجمعكم، وليس ببدع أن ينال مثله كل من يتصدى لطلب الإصلاح، وينشد الحق والعدل في بلاد حكمت قرونا بالاستبداد، ولم تكتب لها السلامة منه، ومن ابتلي بذلك يستطيب الأذى إذا أنتج عمله نفعا للخير العام.
قضيت في الشهر الفائت ثلاثة وعشرين يوما في زيارة مدينة الرسول، وآثار وادي موسى أو البتراء المعروفة بالعربية الصخرية، وبلاد مآب أي الكرك، وأرض الشراة التي كان يسكنها بنو العباس في أيام بني مروان، ومنها خرجوا بالدعوة لدولتهم، وأرض البلقاء التي كانت مصايف لبني أمية أيام حكومتهم في دمشق، وغير ذلك من الأقاليم في أقصى حدود بلاد الشام الجنوبية، ومن هذه الأقاليم ما وصل إليه الخط الحجازي، ومنها ما يقصد إليه على الدواب، فلما عدت إلى دمشق استريح من وعساء السفر، فاجأتني الحكومة المحلية بما عودتنيه أيام الحكم المطلق والحكم المقيد من خرق قانون الحرية الشخصية والفكرية، ومحاولة النيل مني بلا موجب.
سعيت وطائفة من أصدقائي في سورية بعد انتشار القانون الأساسي أن يكون في بلادنا دستور حقيقي، يستمتع به العثمانيون على اختلاف عناصرهم ونحلهم، ولكن الفئة المتغلبة على الحكومة في الآستانة والمرسلة بصنائعها إلى الولايات أبت - وخصوصا بعد سقوط وزارة رجل السياسة العثمانية كامل باشا - إلا أن يكون الدستور استبدادا في صورة حرية، فكنا كلما طالبنا بمطلب من مطالب الإصلاح الطفيف اتهمونا أنواع التهم، بل كنا معهم - كما قال ابن أبي طالب - «كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم»، فالحكومة بل الحاكم الذي كان يرهقنا زمن الاستبداد، ويشردنا على أننا ناقمون على حكومة المخلوع، حتى اضطررنا أن نقضي أربع سنين في هذا القطر فرارا من الحيف، عاد في الدور الذي يدعونه بالحرية، يرمينا بالارتجاع، ثم بالدعوة لإنكلترا، ثم بالدعوة لحكومة عربية، إلى غير ذلك مما يختلقون من ضروب الافتراء الذي لا يستنكف كل ضعيف في حكومة هذا الشرق التعس من أن يلصقه بمن لا يقدر على حجاجه بالبرهان إذا دله على عيوبه ليتقيها، ونصح له بالاعتدال؛ لتطول أيامه ولا تساوره أسقامه.
ففي مثل هذه الحالة يسارع مثلي إلى الهرب من وجه الظلم؛ إذ لا قانون هناك يأخذ للضعيف من القوي، وما القانون عندهم إلا هوى النفوس، ولا رواج إلا للزور والنفاق، ولا عجب، فقد قال ابن خلدون: إن الدول إذا تنزهت عن التعسف والميل والأفن والسفسفة، وسلكت النهج الأمم، ولم تجر عن قصد السبيل، نفق في سوقها الإبريز الخالص واللجين المصفى، وإن ذهبت مع الأغراض والحقود وماجت بسماسرة البغي والباطل، نفق البهرج والزائف.
Неизвестная страница