وفي القرن التاسع نشأ القلقشندي (821) صاحب «صبح الأعشى»، وكتابته من السجع على الطريقة الفاضلية المتناسبة مع زمنه، وقد جمع في كتابه نموذجات من إنشاء العصور السالفة إلى عصره، فكان كتابه معلمة (أنسيكلوبذيا) للمنشئين، كما كان كتاب «نهاية الأرب للنويري». وأهل البصر بعيوب الكلام يفضلون على القلقشندي المؤرخ المقريزي وجلال الدين السيوطي. ومن كتاب القرن التاسع محمد بن أبي بكر المخزومي، ومحمد بن عبد الدائم، وابن حجة الحموي (837)، وكتابا «خزانة الأدب» و«ثمرات الأوراق»، لابن حجة مثال التكلف، ومن اقتصر في درسه عليهما تخدشت فيه ملكة البيان لا محالة.
والقرن الحادي عشر مبدأ قرون الظلمات في الكتابات، فإن «نفحة الريحانة» للمحبي صاحب «خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر» نموذج من نثر ذاك العصر، ومن ترجم لهم من الأدباء، وأكثرهم ممن ترجمهم في «خلاصة الأثر» عنوان أهل جيله، وكذلك يقال في «سلافة العصر» لابن معصوم من أهل ذاك القرن، فإن سجعه متكلف، ومن ترجمهم وليسوا من الكتاب قل فيهم النبوغ، وغاية إجادة المجيد منهم أن ينظم قصيدة غزلية تقع موقع القبول من بعض القلوب، أو قصيدة يتكسب بها من أرباب المظاهر، أو يؤلف كلمات مسجوعة متشاكلة هي والشعر، ومثل ذلك يقال في كلام الحسن البوريني (1024) في تراجم الأعيان، فإنه من هذا البحر والقافية، وكان في أوائل هذا القرن رجل استفاضت شهرته؛ لأنه جمع علوما كثيرة، وكان أديبا بارعا وهو بهاء الدين العاملي (1003) صاحب «الكشكول» و«المخلاة» و «أسرار البلاغة»، فإنه كان زينة عصره في الأدب، متفننا في تنويع موضوعاته.
وما قيل في المحبي وابن معصوم والبوريني، يقال في الغزي مترجم أهل القرن الحادي عشر، والمرادي مترجم علماء القرن الثاني عشر، وما أورد هذا لهم من الشعر والنثر في كتاب «سلك الدرر»، وبعضه أثقل من رضوى، وأبرد من عضرس، وأين هو من السخاوي في «الضوء اللامع لأهل القرن التاسع»، ومثل هذا قل في كتاب أهل القرن الثالث عشر مثل سجع البربر (1226) في «مقاماته»، وابن شاشو في «تراجم أعيان دمشق»، فإنه غاية ما وصلت إليه الكتابة من الابتذال والسجع الثقيل على الطبع، ولكن هذا القرن تجلت في أواخر نصفه الأول حركة تجدد، فاختلط أهل مصر والشام بأهل الغرب، ولا سيما مع علماء فرنسا، وتخرج بعض أبناء القطرين في جامعاتها، فأخذت المترجمات في العلوم المختلفة على عهد محمد علي مؤسس الدولة العلوية المباركة، تؤثر تأثيرها المطلوب في روح الكتابة، وأخذوا طرفا من آداب الغربيين، ولا سيما الفرنسيون، نقلوه إلى العربية نقلا ضعيفا ركيكا، وأيقن الدارسون من أبناء مصر والشام أن الآداب العربية خلت في أرقى عصورها من التمثيل، وإن لم تخل من القصص والروايات والحكايات التاريخية والأدبية، ولكن على صورة مصغرة.
ومن المجددين الذين ختم بهم القرن الماضي أحمد فارس الشدياق اللبناني، فإنه أقام سنين طويلة في إنجلترا وفرنسا ومالطة والآستانة، ونقل للعرب طريقة جديدة في تآليفه، وترك أثرا جميلا من نبوغه وتفننه في أساليبه، وفي كتابه «الساق على الساق» و«الواسطة في معرفة أحوال مالطة»، ومقالاته العلمية في جريدة الجوائب التي جمعت في «كنز الرغائب» و«الجاسوس على القاموس» و«سر الليال» يتجلى للناقد البصير كيف قلب الأفكار، وأتى العرب بنمط مبتكر في التفكر والبحث، وفهم الأدب على غير ما فهمه أهل عصره، ومن سلفه من الأعصار.
وممن كان في النصف الثاني من القرن الماضي في مصر، وعد إمام النهضة الحديثة رفاعة بك الطهطاوي (1290)، فإنه ترجم وألف كثيرا، وبه تخرج عشرات من رجال مصر، وكان السجع يغلب عليه، ومن أدبائهم عبد الله فكري باشا وهو ملتزم السجع، ولكنه السجع القصير البعيد عن التكلف في الجملة، وكذلك علي مبارك باشا (1311)، وأهم الرجال الذين أدخلوا الإنشاء في طور جديد وحلوه من قيوده الثقيلة التي رسف فيها قرونا، الشيخ محمد عبده المصري (1322)، فإنه كان خطيبا مصقعا، وكاتبا بليغا، ولم يعهد لرجال الدين كاتب مثله في القرون الأخيرة، فكان كما قيل فيه يكتب الشريعة بلسان صاحبها، تشهد له بذلك «رسالة التوحيد» و«الإسلام والنصرانية» و«رحلته إلى إيطاليا» و«درس تفسيره»، وقد تخرج به كثيرون من رجال مصر الحديثة، كما تخرج بصديقه الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي كثير من رجال النهضة في الشام، فإن هذا أيضا خلع الثوب القديم البالي في الإنشاء، بعد أن لبسه في أول عهده وأخذ يسير مع الطبع، تاركا للجناسات وأنواع البديع جانبا، تشهد له الكتب الكثيرة التي ألفها في الشريعة والطبيعة واللغة والآداب، ونشأ في الشام كتاب عصريون منذ خمسين سنة، ومعظمهم ممن تشبعوا باللغات الإفرنجية، والمبدع منهم قليل، ولا نذكر أنه نشأ في الشام على عهدها الأخير كاتب مثل إبراهيم المويلحي المصري في إبداعه، ولا سيما الجد في قالب الهزل، وكان يقلد الجاحظ في سرد الحقائق على أسلوب الرياليست. ونشأ في الإنشاء في الشام أمثال إبراهيم اليازجي، وإبراهيم المصور، وشكيب أرسلان، ويعقوب صروف وغيرهم من المجودين، وفي مصر أمثال حفني ناصف، وقاسم أمين وإبراهيم اللقاني، وأحمد سمير وأضرابهم من الأحياء والأموات في الأقطار العربية، ولو كتب لبعض الكتاب المشهورين في الشام والعراق أن يحذقوا أدب الغرب، كما حذقوا أدب العرب، لخدموا الأدب كثيرا، بيد أن الإجادة المتناهية قليلة، وعيوب الإنشاء تبدو أكثر من عيوب الشعر، وفي الثاني يغتفر ما لا يغتفر في الأول، فقد قال لابروير: أربعة لا يطاق فيها الاعتدال: الشعر، والموسيقى، والخطابة، والتصوير.
إلى اليوم على كثرة اختلاط مصر والشام وتونس والجزائر، بأدباء الغرب وأخذهم عنهم، لم يكتب للغة العربية اقتباس التمثيل، كما هو الحال في الغرب؛ وذلك لأن التمثيل عارض في المدنية العربية، وإيجاد المفقود أصعب من إصلاح الموجود، ولكن الخروج بالكتابة عن روحها العتيقة مع إلباسها الحلة العربية القديمة التي كانت لها في القرنين الثاني والثالث مثلا، والرغبة في القصص والنوادر آخذة بالترقي، ومعظم قصصنا ونوادرنا ورواياتنا التشخيصية محتذاة من الإفرنجية، أو منقولة عنها بالحرف، وهذا من أبشع ضروب الاقتباس، ولعله لا يطول الأمر حتى ينشأ للأمة العربية روائيون وقصصيون، وكتاب فاجعات، ومآس على الصورة التي جرت عليها أمم الحضارة الحديثة، فيعود أرباب الأقلام إلى الإبداع والاختراع، ويسير المنشئون بروح الأمة يعالجونها بما يوائمها، فما ينفع من أدب الغرب قد لا ينفع ولا يلتئم مع حالة ابن المشرق. •••
أكتب هذا بمناسبة سفر بديع ظهر حديثا
3
في عالم الأدب العربي، فأدخل السرور على قلوب أنصار التجدد، وأعني به كتاب «مطالعات في الكتب والحياة» لكاتب من أفذاذ الكتاب بمصر الأستاذ العقاد، ومؤلفه بحاثة نقادة في الأدب والشعر على مثال أدباء الغرب، نشر قبل سنين كتاب «الفصول» فأجاد، والآن جاء يعبد وأهل حلقته تلك الطريقة، وينشر على الأدب جملة فضله الرائع، الذي جمع فيه بين أجمل القديم وأنفع الحديث، ومن حسنت ملكته وصحت قريحته، كان جديرا بأن يختار الأطايب في كل ما يعرض له.
تقرأ الأستاذ العقاد فتظنك تقرأ نقادا من نقاد فرنسا أمثال: فاجية، ولمنر وبيدو، وبريستون، ولكن بديباجة عربية تشبه اللغة يوم عزها، ويدهشك بسلامة ذوقه، وسلاسة تعبيره، ورصف جمله، ورنة تراكيبه، وقلما يكتب ذلك إلا لأفراد في كل عصر، فقد كانت الطبقة السابقة التي حاولت إدخال هذه الطريقة في اللغة إلى جانب القصور؛ لضعف ملكاتها من اللغة التي حاولت تبديل قيافتها، وكثيرا ما كانت ضعيفة أيضا في اللغة التي حاولت الأخذ عن بنيها تفهم الألفاظ، ولكنها عن المعاني بمعزل، بيد أن هذا النابغة رزق السعادتين، فأتقن الأدب الإفرنجي إتقانه للعربي، وجاء منه جهبذ بحاثة، ذو أسلوب مبتكر لا ينكره المنصفون من الغالين بتمجيد القديم، ويغتبط به المجددون أية غبطة.
Неизвестная страница