قال الكاتب الذي عربنا عنه أكثر هذا المبحث: وقد كان أرباب الأفكار والحصافة يجمعون على أن اللغات الحية لا تعلم كاللغات الميتة، بل إنه لا بد في الأولى من المران على التكلم بها من أول وهلة، وإنه ما من لغة مهما تراءى من صعوبتها على المتعلمين لأول الأمر، سواء كانت اللغة الروسية، أو الهندية، أو العربية، أو الصينية إلا ويتيسر إتقانها على طريقة برليتز في مدة تختلف باختلاف ذكاء المتعلم وصعوبة اللغة، والله أعلم.
اللغات الإفرنجية1
لهجت بعض الألسن في منافع اللغات الأوروبية ومضارها في مجتمعنا، عقيب أن قام صاحب المؤيد في الجمعية العمومية في الربيع الماضي، وناقش ناظر معارف مصر في وجوب تعليم العلوم في المدارس الأميرية باللغة العربية، فكان من أثر ذاك الحوار أن بطلت دروس الأشياء وجعل تدريس علم تقويم البلدان باللغة العربية في المدارس الابتدائية، كما شرع في تعليم الرياضيات في السنين الأولى من المدارس الثانوية باللغة العربية أيضا.
فقام بعض الناس متخذين من هذا الإصلاح حجة على قلة غناء اللغات الإفرنجية، زاعمين أن في العربية ما يكفيها من العلوم، على حين كان ما دعا إليه الداعون من التدريس بالعربية لمقصد آخر، أريد به إحياء لغة البلاد إذا درست العلوم بها، وإشراب نفوس المتعلمين حب أمتهم؛ ليعم النفع مما يتعلمون لا التنفير من تعلم اللغات الإفرنجية التي لا يمتري عاقلان في وجوب تعلمها على فريق كبير من الناس، ولا سيما من تصدوا للنفع والتأليف والكتابة على نحو ما يفعل علماء اليابان، فيتعلمون الإنكليزية كما يتعلمون لغتهم الأصلية.
نقول تعلم اللغات الأجنبية وما أحرانا أن نقول إتقانها؛ لأن المبادئ البسيطة منها قد لا تفيد المتعلم إلا توهمه أنه أصبح من العارفين، فإن تعوذ علماؤنا قديما من نصف فقيه، ونصف صوفي، ونصف كاتب ، ونصف شاعر، فما أحرانا أن نتعوذ من ناشئ يتعلم طرفا من لغة لا يستفيد منها ولا يفيد. وليس معنى هذا أنه يتحتم وجوبا على كل متعلم للغة أجنبية أن يكون فيها مؤلفا خطيبا كاتبا مترجما، فهذا مناف لسنة الكون، ولكن المطلوب أن يعرف الناس في تعلم إحدى اللغات الأوروبية القدر الذي يؤهلهم للانتفاع بها في التجارة وأعمال الإدارة والقضاء والعلم.
ولا مشاحة في أن أكثر من تعلموا اللغات الأجنبية من أبنائنا لم يتقنوها وإن حذقوها، فلا يكون لهم من المعرفة بلغتهم ما يستطيعون معه أن يعبروا به عن أفكارهم، وينقلوا إليها ما يعوزها من علوم الغرب وحضارته، بيد أن اللغة وإن أتقنها صاحبها لا تنفعه وينتفع بها النفع المطلوب إلا إذا أضاف إليها علما أو فنا أخصى فيه، واللغة آلة لا غاية، وإن كان من يتقن لغة أوروبية لا يتسنى له ذلك إلا بعد أن ينظر نظرة إجمالية في الفنون المتعارفة، أما ما يقوله بعض من لا يساعدهم الوقت على تعلم لغة أجنبية، من أنه ليس في النقل من اللغات الغربية كبير أمر، وأن العالم يستفيد من الوجود أكثر من استفادته مما دونه كبار أرباب العقول من أمم الحضارة، فهذا من الآراء التي يقصد بها الاعتذار عن التقصير، ومن جهل شيئا عاداه؛ إذ من الثابت المقرر أننا مهما تأملنا في صحيفة الكون، لا نستطيع أن ندرس فيه نظام الاجتماع ولا تقنين القوانين، ولا الطب، ولا الهندسة، ولا الفلك، والطبيعة والكيمياء، وفنون الأدب والتاريخ ورسم الأرض وغيرها من الفروع الكثيرة التي لا أسماء لها في العربية؛ إذ لم يكن للعرب عهد بها، ولا تتم سعادة مجتمع اليوم إلا بتعلمها وإتقانها، ومن قال بأن أسلافنا من العرب قد أجالوا في هذه العلوم قداح أنظارهم ووضعوا فيها ما وضعوا من رسائلهم وأسفارهم، فهو على صواب وخطأ؛ وذلك أن أجدادنا قاموا بالواجب من خدمة هذه العلوم في عصر تماسكهم وانبساط ظل دولتهم، إلا أنه انقطعت سلسلتها بعد القرن السادس إلى منتصف القرن الثالث عشر للهجرة، وهي القرون التي كانت فيها الأمة العربية في غفلة، والأمم الغربية في انتباه، فأخذ الغرب عن الشرق ما عنده من حضارة، وزاد عليها أضعافا، ولا يزال يركض طرف عقله في مضمار البحث والاستقراء، ويعاني من ضروب العلم ما نحن فيه معه أجهل من تلميذ مبتدئ بالتهجئة بالنسبة إلى عالم يكتب الكتاب ويقصد القصيد.
فالأمة العربية إذا أرادت النهوض العقلي والعلمي، يجب عليها أن تأخذ من كل علم بالسهم الأوفر، ولا يتم لها ذلك إلا بالنقل عن الأمم الغربية، وهذا لا يتأتى إلا بعد أن تخرج مدارسنا الألوف من الطلبة المتعلمين على الأساليب الحديثة؛ لينشأ لنا منهم عشرات يكونون لنا عونا على ما ينقصنا من أسباب نهضتنا، وما تشتد حاجتنا إليه، ويكاد ذلك إلى الآن يعد مفقودا بيننا، اللهم إلا طائفة من أسفار نقلها بعض المولعين بالعربية، وما يتيسر للمجلات تعريبه من حين إلى آخر من علوم الغرب، وكله دون حد الكفاية بكثير.
قال ابن رشد في فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال: إذا تقرر أنه يجب بالشرع النظر في القياس الفقهي، فبين أنه إن كان لم يتقدم أحد من قبلنا بفحص عن القياس العقلي وأنواعه، أنه يجب علينا أن نبتدئ بالفحص عنه، وأن يستعين في ذلك المتقدم بالمتأخر حتى تكمل المعرفة، فإنه عسير وغير ممكن أن يقف واحد من الناس من تلقاء نفسه، وابتداء على جميع ما يحتاج إليه من معرفة أنواع القياس الفقهي، بل معرفة القياس العقلي أحرى بذلك وإن كان غير ناقد فحص عن ذلك، فبين أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك، وسواء كان ذلك الغير مشاركا لنا أو غير مشارك في الملة، فإن آراءه التي تصح بها التزكية، ليس يعتبر في صحة التزكية بها كونه آلة لمشارك لنا في الملة أو غير مشارك، إذا كانت فيها شروط الصحة، وأعني بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام.
وإذا كان الأمر هكذا ، وكان كل ما يحتاج إليه من النظر في أمر المقاييس العقلية قد فحص عنه القدماء أتم فحص، فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم، فننظر فيما قالوه من ذلك، فإن كان كله صوابا قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه، فإذا فرغنا من هذا الجنس من النظر وحصلت عندنا الآلات التي بها يقدر على الاعتبار في الموجودات ودلالة الصنعة فيها، فإن من لا يعرف الصنعة لا يعرف المصنوع، ومن لا يعرف المصنوع لا يعرف الصانع، فقد يجب أن نشرع في الفحص عن الموجودات على الترتيب والنحو الذي استفدناه من صناعة المعرفة بالمقاييس البرهانية، وبين أيضا أن هذا الغرض إنما يتم لنا في الموجودات بتداول الفحص عنها واحدا بعد واحد، وأن يستعين في ذلك المتأخر بالمتقدم على مثال ما عرض في علوم التعاليم، فإنه لو فرضنا صناعة الهندسة في وقتنا هذا معدومة، وكذلك صناعة علم الهيئة ورام إنسان واحد من تلقاء نفسه أن يدرك مقادير الأجرام السماوية وأشكالها، وأبعاد بعضها عن بعض، لما أمكنه ذلك مثل أن يعرف قدر الشمس من الأرض، وغير ذلك من مقادير الكواكب، ولو كان أذكى الناس طبعا إلا بوحي أو شيء يشبه الوحي، بل لو قيل: إن الشمس أعظم من الأرض بنحو 150 ضعفا أو ستين، يعد هذا القول جنونا من قائله.
وهذا شيء قد قام عليه البرهان في علم الهيئة، قياما لا يشك فيه من هو من أصحاب هذا العلم، قال: «وهذا أمر بين بنفسه ليس في الصنائع العلمية فقط وفي العملية، فإنه ليس منها صناعة يقدر أن ينشئها واحد بعينه، فكيف بصناعة الصنائع وهي الحكمة، وإذا كان هذا فقد يجب علينا إن لقينا لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظرا في الموجودات واعتبارا لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم، وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم.»
Неизвестная страница