ارتقاء العرب وانحطاطهم1
بحثت الأمم المتحضرة منذ الزمن الأطول في الأخلاق، وكان لمؤلفي العرب حظ وافر في هذا الموضوع، شأنهم في أكثر العلوم التي عالجوها ونجحوا في الخوض فيها.
وأكثر العلماء على أن الأخلاق تصلح بالتعليم والتربية، ولا سيما ما كان منها مستفادا بالعادة والتدرب، وليس من الغريزة في شيء، فإن من غلبت عليه السويداء أو الحدة مثلا، لا يطمع في استصلاحه إلا بطول الزمن والتوفر على المعالجة، والمرء ينتقل بالتأديب والمواعظ إما سريعا أو بطيئا، ومن قال: إن الخلق طبيعي لا يخرج الإنسان عن أحكامه، فقد قال على رأي ابن مسكويه بإبطال قوى التمييز والعقل، وبرفض السياسات كلها، وترك الناس همجا مهملين، وبترك الأحداث والصبيان على ما يتفق أن يكونوا عليه بغير سياسة ولا تعليم.
لا جرم أن للإقليم - كالحرارة والبرودة والاعتدال والخصب والقلة - تأثيرا كبيرا في الطباع، وهي من جملة العوامل في ارتفاع الأمم وتدليها، ولكن ما ينقص بتأثير المحيط والبيئة والهواء قد تجبره التربية.
فقد رأينا العرب قاموا من جزيرتهم وهي في غاية الحرارة وكانوا نصف متمدنين، فانثالوا على الشرق والشمال، ففتحوا فارس والشام ومصر وغيرها، ولم يعقهم عائق من إقليمهم وحرارته وأوغلوا عليهم، رأيناهم وقد طهر الإسلام من أخلاقهم، وهذبهم وعلمهم الصبر والمضاء والرفق والتسامح، والترفع عن الدنايا، فنشروا في البلاد المغلوبة في سنين قليلة دينهم ولسانهم على صورة لم يكد يسبق لها مثيل في العالم، ولا نذكر أنه كتب لأمة أن غلبت ونمت بمثل هذه السرعة، فقلبت وجه الأرض وأطاعتها العناصر والأديان المختلفة في آسيا وأفريقيا وأوروبا، فلو كان للحرارة في قيام الأمة أو الفرد كل ما يدعيه بعضهم من التأثيرات، لما أنشأت العرب مدنيتها، ولا ارتفعت في الأرض قرونا كلمتها. قال بنتام صاحب روح الشرائع: الظاهر كل الظهور أن سكان البلاد الحارة أقل قوة ونشاطا من سكان البلاد الباردة، وحاجتهم للعمل أقل لخصب أرضهم، وهم أميل إلى العشق واللذات تبادرهم مظاهرها.
وهذا القول لا يصح على إطلاقه؛ لأن التاريخ قد أتى بأمثلة كثيرة قديما وحديثا على نقض هذا الرأي، فالعرب في القدماء واليابان في المحدثين أكبر دليل على نقض قول بنتام، وإذا كان للهواء بعض التأثير في النشاط، فإن للبرودة تأثيرات أخرى تعوق العقل الإنساني عن كل ما ينتظر منه، وإذا قيل: إن شمالي كل مملكة في أوروبا وأميركا أرقى مدنية من جنوبها في العادة، فلذلك عوامل أخرى تاريخية وسياسية فيما نرى، وإذا كان شمال فرنسا يتقدم جنوبهما من حيث الارتقاء وشمال ألمانيا وشمال إيطاليا، أرسخ في المدنية من جنوبها، وأميركا الشمالية أعلى كعبا في هذا المعنى من أميركا الجنوبية، فقد رأينا جنوب أوروبا على عهد الرومان والعرب يتقدم شمالها، بل رأينا جنوب بلاد العرب أرقى من شمالها على عهد عز الأمة العربية، وهذا يرجع إلى الحكومة في أغلب الحالات، واتخاذ البلد الفلاني مركزا لتتوفر العناية به وبأهله، فتتناول المدنية الأقرب فالأقرب من نقطة دائرتها.
فالقول بأن شعوب البلاد الحارة يحكم عليها إقليمها، فلا تفوز بكبير أمر في المجتمع الإنساني قول فيه نظر؛ لأن العقل والتهذيب اللذين بهما حياة الممالك وسقوطها ينشآن من البلاد الحارة كما ينشآن من البلاد الباردة.
ولو اقتضى أن يكون سكان كل بلاد باردة راقين في مناحيهم وحضارتهم، لاستلزم أن يكون سكان سيبيريا أرقى من سكان إنكلترا، ولو كان أهل كل بلاد حارة منحطين لما شاهدنا المصريين اليوم أصبحوا بالتربية في أربعين سنة يشبهون الراقين من أهل أوروبا وأميركا، بل ولترتب على ذلك أن يكون سكان جنوبي أفريقيا، وأكثرهم من جالية هولاندة منحطين مثل جيرانهم السودان؛ لغلبة الإقليم على طباعهم بعد بطون وأجيال.
قال فوليه الفيلسوف الفرنساوي: لقد خرج كثير من الشعوب الفاتحة من البلاد الحارة مثل العرب على عهد عمر وعثمان، وكذلك الموحدون والمرابطون، أما القول بأن البلاد الحارة تولد القسوة على رأي مونتسكيو، فقد شوهدت القسوة ماثلة للعيان في تاريخ عامة بني الإنسان، رأيناها متجلية في اليونان، ورومية، وإيطاليا، وإسبانيا، وإنكلترا، وروسيا كما ظهرت في مصر وآشور وفارس. ولقد سكن الإسكيمو في بلاد باردة، فكانوا أكثر توحشا من الذئاب والدببة التي ملأت صحاريهم. ا.ه.
بغداد من البلاد الحارة نشأت فيها مدنية عربية مدهشة، ولما انتظمت حكومتها وحسنت تربية سكانها، أفاضت النور على الأرض كلها، فعد عصر المأمون فيها من العصور الزاهرة بكل العلوم والصناعات، كما عد عصر بركليسي في أتينة، وعصر أغسطس في رومية. وتعد القسطنطينية من الأقاليم الباردة المعتدلة، حاول محمد الفاتح أن ينشئ لها مدنية مع ما كان فيها من أثر لا يستهان به من بقايا عز قديم، فلم يوفق إلى ذلك، فغلبت طباع الترك طباع الإقليم. والترك أمة صربية لم تعهد للترقي الحقيقي عصرا، وكانت قرائح أبنائها محصورة على الدوام في الحرب فقط، فلما كانت الغلبة لهم والفتوح مواتية والعيش رخاء، لم يتأدبوا بأدب النفس، ولم يدخلوا في التربية الصحيحة من أبوابها؛ فلذلك لم تستقم لهم حضارة ثابتة، وقضى الترك على آخر آثار مدنية البيزنطيين يوم حلوا محلهم، واستولوا على تراثهم، كما قضوا على البقية الباقية من مدنية العرب، وغيرهم من الأمم ذات المجد المعتبر، ولم يتيسر لهم ويا للأسف إقامة شيء جديد، وليس الذنب في ذلك كله على طباع رسخت فيهم، بل العيب كل العيب على نظام حكومتهم، وغلوهم في تكبير رقعة مملكتهم مع سوء إدارتهم، فقد رأينا شعوبا أحط منهم جنسا أنشئوا لهم مدنية، وأحسنوا لمن انضووا تحت رايتهم على الأغلب، أما الترك فكان رائدهم في فتوحاتهم الغزو واستجلاب الغنائم، ففتحوا بلادا يستحيل عليهم أن يخضعوها لسلطانهم أبد الدهر؛ لأن أهلها أرقى منهم مدنية وعنصرا، ولا يرجى أن يكونوا منحطين عنهم أبدا، وفي تاريخ استيلاء الترك على المجريين، واليونانيين، والرومانيين، والصربيين، والبلغاريين، وفي حالة هذه الأمم على عهد الترك وحالتها بعدهم، أكبر دليل على أن العبرة في الفتوح بالأخلاق الفاضلة، والطباع اللينة، واقتباس النافع من أسباب النشوء والارتقاء بالقوس والنشاب والمدافع والحراب.
Неизвестная страница