كانت لليونان، ثم كانت للرومان، ثم كانت للعرب، ثم عادت إلى أوربا فكانت للكنيسة، أي لمدينة روما، أو قل: كانت قيادة الفكر لمدينة من المدن - لأثينا، وللإسكندرية، ولروما، ولمكة، وللمدينة، ولبغداد، وللقاهرة، ولقرطبة، ثم لروما. أما في العصر الحديث فقد تغير هذا كله، وكما أن قيادة الفكر لم تكن إلى الدين أو الفلسفة أو الأدب أو السياسة، وإنما كانت لها كلها، فهي لم تكن لأمة بعينها ولا لمدينة بعينها، وإنما كانت للأمم المتحضرة جميعا، وللمدن الظاهرة في هذه الأمم - وذلك كله أثر من آثار المطبعة.
وخذ هذا القرن السابع عشر، وابحث عن الفلسفة فيه؛ فقد كانت في العصور الأولى يونانية، أو إسكندرية، أو عربية، أما الآن فلن تكون فرنسية، ولا إنجليزية، ولا ألمانية، وإنما لكل أمة من هذه الأمم فلسفتها. والأمر كذلك في الأدب، وهو كذلك في السياسة، وهو كذلك في الفن والعلم، ونوشك أن نقول إنه كذلك في الدين أيضا.
للفرنسيين ديكارت، وللإنجليز باكون، وللفرنسيين شعراؤهم الممثلون، وللإنجليز شكسبير، وللفرنسيين لويس الرابع عشر وريشليو، وللإنجليز كرمويل، ونستطيع أن نذكر في الفلسفة والأدب والسياسة والدين والعلم والفن أسماء إيطالية وألمانية وهولندية.
وعلى هذا النحو اشتد توزع قيادة الفكر بين المؤثرات المختلفة من جهة، وبين الأمم والمدن من جهة أخرى، وأخذ يزداد شدة كلما كثرت المطابع وكثرت آثارها المنشورة حتى انتهى الأمر في القرن الثامن عشر، إلى شيء يشبه الفوضى، بل إلى الفوضى. وما أظن أني أقول جديدا إن زعمت أن المطبعة من أهم المؤثرات في الثورة الفرنسية التي لم يفق منها العالم بعد.
ولم يقف الأمر بالمطبعة عند نشر الكتب والرسائل وما إليها، وعند استحداث ما استحدثت من الآثار في القرن السادس عشر والسابع عشر، ولكن المطبعة استتبعت شيئا آخر غير الكتب والرسائل، استتبعت الصحف اليومية والدورية كما يقولون.
وما أظن أنك في حاجة إلى أن أدلك على أن ظهور الصحف السياسية والعلمية والأدبية، قد قوى توزع قيادة الفكر، وانتهى به إلى حد غريب، فقد كان العلماء والكتاب والفلاسفة والساسة ينشئون كتبهم وينشرونها، فيستغرق ذلك منهم الأشهر والأعوام، ويستتبع ذلك بطئا فيما يكون بينهم من النزاع والنضال والاستباق إلى قيادة الفكر. أما بعد أن ظهرت الصحف فالنزاع يومي، أو أسبوعي، أو شهري، هو عنيف، وهو سريع، وهو متصل، وهو مؤثر في توزيع قيادة الفكر، بمقدار ما يشتد ويسرع ويستمر .
والنتيجة الظاهرة لهذا كله، هو أننا كنا نجد في العصور الأولى رجلا يقود شعبا، وشعبا يقود العالم. أما الآن فقلما يظفر الرجل بقيادة مدينة، أو فرقة من مدينة، وهو إن ظفر بذلك، فإنما يظفر به إلى حد، وعلى مشقة وجهد، إلا أن يكون فذا من أفذاذ التاريخ حقا، أو يكون في أمة جاهلة لم تظهر المطبعة فيها بهذا السلطان العظيم، ولم يكثر فيها القراء والكاتبون.
أحب أن تلتمس قيادة الفكر - لا أقول في العالم، ولا أقول في أوربا وأمريكا، وإنما أقول في فرنسا وحدها الآن - لأي نوع من أنواع المؤثرات هي؟ أللفلسفة؟ ولأي فلسفة؟ ألفلسفة الوضعيين أم لأصحاب ما بعد الطبيعة؟ ولأي فريق من هؤلاء؟ أم هي للدين؟ ولأي دين؟ أللكاثوليكية أم للإنجيلية؟ أم هي للأدب؟ ولأي مذهب من مذاهب الأدب؟ فقد يكون إحصاء هذه المدارس عسيرا. أم هي للسياسة؟ ولأي لون من ألوان السياسة؟ للجمهورية المعتدلة؟ أم للديمقراطية المتطرفة؟ أم للملكية؟ أم للإمبراطورية؟ أم للشيوعية؟ أم للاشتراكية؟ ...
وتستطيع أن تسأل هذا السؤال بالقياس إلى كل بلد من بلاد أوربا الراقية.
وكأن المطبعة وما استتبعت من النشر والإذاعة، والصحف وما استتبعت من الإلحاح في النشر والإذاعة، لم تكن تكفي لتوزيع قيادة الفكر بين المؤثرات المختلفة، والأمم المختلفة، والفرق المختلفة، فاستحدث هذا العصر الجديد شيئا آخر أو أشياء أخرى، يخيل إلينا في ظاهر الأمر أنها تعين على توحيد الكلمة، وجمع الرأي، وقصر قيادة الفكر على مؤثر بعينه أو أمة بعينها، ولكنها في حقيقة الأمر تجمع الناس، وتقرب ما بينهم من المسافات المادية والمعنوية، وهي في الوقت نفسه تمعن في توزيع قيادة الفكر إمعانا غريبا؛ وهذه الأشياء هي ما اتفقنا على تسميته أسباب المواصلات.
Неизвестная страница