كانت قيادة الفكر إلى الشعراء أول عهد العالم القديم بالوجود الاجتماعي والسياسي، ثم ارتقى هذا العالم القديم من الوجهة الاجتماعية والسياسية والعقلية، فانتقلت قيادة الفكر من الشعر إلى الفلسفة، وأصبح قادة الفكر فلاسفة ومفكرين، بعد أن كانوا أصحاب شعر وخيال ، ولكن هذه الفلسفة نفسها جدت في سبيلها التي سلكتها إلى الرقي، وانتهت إلى ما لم يكن بد من أن تنتهي إليه، فأحدثت في النفوس شكا، وتناولت النظم القائمة بالنقد حتى هدمتها، أو كادت تهدمها؛ وظهر أنها عاجزة عن قيادة الفكر بعد أن وصلت الجماعات إلى هذا التطور الذي وصلت إليه في القرن الرابع قبل المسيح، كما ظهر منذ قرون عجز الشعر عن قيادة الفكر بعد أن تبدلت الحياة الاجتماعية والسياسية.
ولم يكن بد من أن تنزل الفلسفة عن سلطانها لشيء آخر يخلفها على قيادة الفكر وتوجيه الحياة الإنسانية وجهة جديدة؛ تلائم هذه الأطوار الجديدة التي انتهت إلى الجماعات.
وفي الحق أن هذا القرن الرابع قبل المسيح كان عصر انتقال عام تظهر آثاره في جميع أجزاء العالم القديم: في الشرق الآسيوي، وفي الغرب الأوربي، وفي بلاد اليونان خاصة، وشبه جزيرة البلقان بوجه عام، فأنت حين تستعرض تاريخ العالم القديم في هذا العصر، لا تجد إلا تغيرا وتبدلا في النظم وأصول الحكم، في الأخلاق والعادات، بل في الشعور الديني نفسه.
أما في الشرق، فقد كانت الدولة الفارسية العظمى، التي بسطت سلطانها على أعظم إمبراطورية عرفها تاريخ الشرق القديم، وأخضعت لهذا السلطان بلاد الفراعنة وبلاد البابليين والآشوريين والفينيقيين، كانت قد انتهت إلى شيء من الضعف آذن بأن سقوطها قد أصبح أمرا ليس منه بد: كان الفساد قد اشتمل على ملوكها وزعمائها، وكان الترف قد عبث بعامة شعبها الذي كان مصدر قوتها وبأسها، وكان العصيان قد انبث في أقطار الأرض التي خضعت لها، فأصبحت هذه الأقطار ثائرة مضطربة يطمع بعضها في استرداد استقلاله القديم، ويخضع بعضها الآخر لأطماع الحكام والمستبدين. وكانت السلطة المركزية قد يئست من أن تقبض بنفسها على أزمة الأمر، فلجأت إلى أعدائها اليونان، تجندهم لحماية أقطارها، وتستأجرهم للدفاع عن سلطانها. وكانت الأمة اليونانية على ما علمت في الفصل الماضي، من الضعف والانحلال، والفساد الخلقي والسياسي، والزهد في هذه النظم السياسية التي ألفتها والتي ظهر فسادها وعجزها عن ضبط الأمور. ولم تكن إيطاليا ولا غرب أوربا أقل اضطرابا من بلاد اليونان والشرق، فقد كانت مدينة روما الناهضة تبسط سلطانها الجديد قليلا قليلا على إيطاليا - وكان الجهاد عنيفا بينها وبين عناصر مختلفة كانت تنازعها السلطان: كان الجهاد عنيفا بينها وبين المستعمرات اليونانية الإيطالية؛ وكان عنيفا بينها وبين الفينيقيين من أهل قرطاجنة؛ وكان عنيفا بينها وبين المدن الإيطالية التي كانت تستمتع بالحياة المستقلة في أمن وسلم، فأصبحت الآن ترى هذه الحياة المستقلة معرضة للخطر؛ ذلك إلى هذه القبائل البربرية التي أخذت تندفع إلى بلاد إيطاليا وإلى غرب أوربا، والتي لم تجد روما بدا من أن تقف منها موقف المدافع المانع. كل شيء في العالم القديم كان يدل في هذا القرن الرابع على أن الحياة الإنسانية في حاجة إلى أن تتغير، وعلى أن القوة لا بد من أن تظهر لتضبط الأمر وتقضي على هذه الفوضى العامة.
وكان لهذه القوة المنتظرة مركزان: أحدهما قريب من الشرق في مقدونيا، والآخر قريب من الغرب في روما. ولكن هذه القوة المقدونية كانت، فيما يظهر أقدر على الظفر وأخلق بالانتصار من القوة الرومانية؛ لأنها كانت قريبة من مركز الحياة الأدبية والسياسية القوية: كانت قريبة من اليونان شديدة الاتصال بهم، وكانت قريبة من آسيا أيضا، ولست في حاجة إلى أن أذكر لك مقدونيا وتاريخها، ولا إلى أن أفصل لك نهضتها السياسية واستئثارها بالقوة، فكل ذلك شيء لا يعنينا الآن، وإنما الذي يعنينا هو أن ملكا من ملوكها وهو فيليب، قد استطاع أن يكسب لها قوة حربية ضخمة، واستطاع بهذه القوة أن يستأثر بالأمر كله في البلاد اليونانية، وأن يخضع هذه المدن اليونانية لسلطان قوي حازم، ويقضي على ما كان بينها من نزاع وخصومة، ويوجه قوتها المادية والمعنوية إلى جهة جديدة نافعة، هي الاستيلاء على الشرق، والقضاء على سلطان الفرس فيه.
ولكن فيليب قتل غيلة، ولما يبدأ تحقيق غايته الكبرى التي كان يسعى إليها؛ فنهض بالأمر بعده ابنه الشاب الإسكندر؛ واستطاع لا أن يحقق غاية أبيه، بل أن يتجاوزها إلى شيء لم يكن يخطر لفيليب ولا لغيره من المقدونيين واليونان، بل لم يخطر لأحد من قبله، وهو إخضاع العالم القديم المتحضر كله لسلطان واحد قوي منظم.
لعلك تعجب حين تراني أحدثك عن الإسكندر الفاتح، في كتاب يبحث عن قادة الفكر. ولعلك تسأل: ما بال قائد من قواد الجيوش يخلط بهؤلاء الذين لم يتسلطوا إلا على العقول؟ ولكني قلت لك في أول هذا الفصل: إن قيادة الفكر قد انتقلت من الشعر إلى الفلسفة، ثم من الفلسفة إلى السياسة، وكان الإسكندر هو الذي نقلها، أو قل هو الذي انتزعها عن الفلسفة وأقرها للسياسة.
ولقد يكون من الحق، ومن الواجب أيضا، أن يتغير رأي الناس في الإسكندر، وفي عظمته، وفي مصدر هذه العظمة؛ فالناس جميعا يؤمنون بأن الإسكندر عظيم، ولكنهم يردون هذه العظمة إلى ما أحدث الإسكندر من فتح لم يعرفه التاريخ القديم. وكيف لا يكون عظيما ذلك الشاب الذي نهض بالأمر بعد أبيه، فلم يكد يستقبل الملك حتى فسد عليه كل شيء، واضطرب من حوله كل شيء، فإذا جيرانه يغيرون على مملكته من كل صوب، وإذا حلفاؤه ينقضون الحلف ويثورون به يريدون أن يقضوا على سلطانه؛ وإذا هو على حداثة سنه وقلة حظه من التجربة، قد ثبت لهذا كله، فصد المغير، ورد الحليف إلى الوفاء بالعهد، وقضى على أطماع جيرانه، ومحا آمال اليونان في الاستقلال، واتخذ من خصومه وأعدائه على اختلاف أجناسهم، وتباين أهوائهم، وتفاوت حظوظهم من الرقي العقلي، جيشا ضخما منظما، عبر به البحر إلى آسيا. فلم يكد يظهر فيها حتى طرد الفرس من آسيا الصغرى، ومضى في طريقه يتبع ساحل البحر حتى أخضع البحر كله لسلطانه، وإذا هو في الشام، وإذا هو في مصر، وإذا هو وارث ملك الفراعنة، وإذا هو يؤسس عاصمة العالم الجديد، وإذا هو يترك مصر ويتعمق في آسيا، فيقضي على دولة الفرس ويرث عرشها، وإذا هو يجد في غزوه ويمعن في فتحه، فيبلغ الشرق الأقصى، ويوغل في الهند إيغالا، ويرفع لواء الحضارة اليونانية والأدب اليوناني في أرض لم تسمع باليونان من قبل، وإذا هو يعود إلى بلاد الفرس ويستقر للراحة في بابل وقد ورث ملك الفراعنة والبابليين والآشوريين والفرس وسلطان اليونان والفينيقيين، وضم هذا كله إلى ملك مقدونيا الذي ورثه عن أبيه.
كل ذلك لم يرضه ولم يقنعه، وما كان استقراره في بابل إلا استعدادا لحركة أخرى أشد عنفا من الحركة الأولى وأبعد منها أثرا؛ فقد كان يريد أن يستأنف السير فيعبر البحر إلى إفريقية، ويمضي في طريقه حتى يبلغ عمود هرقل أو مضيق جبل طارق، فيقضي على سلطان الفينيقيين في إفريقية الشمالية، ويبسط سلطانه على أوربا الغربية، ويقتحم هذا القسم من أوربا حتى يتم دورته، وينتهي إلى مقدونيا حيث ابتدأ حركته. كان يستعد لهذا كله، كان زعيما أن يتمه ويوفق له، لولا أن الموت عاجله فوقفه في منتصف الطريق!
كيف لا يكون عظيما هذا الشاب الذي فعل هذا كله في عشر سنين أو أقل من عشر سنين؛ نعم هو عظيم، ولم تخطئ الأجيال الماضية حين أضافت عظمته إلى هذه الحركة العنيفة الخصبة.
Неизвестная страница