إن إصلاح الحكومة وصلاحها لا يصلح أحدا، فالوطن الصالح لا يكون إلا إذا كان هناك شعب صالح. والشعب الصالح الواعي هو الذي يصلح الفاسدين ويقصي المفسدين ويحطم كل ما هو غير صالح. فمحاولتنا إصلاح الحكم والحكام تكون عقيمة إذا لم نهيئ للوطن شعبا صالحا وأفرادا عارفين. إن الشعب الجاهل أبله، وهو دائما مداح وممالق ومصانع، وهو أبدا مع الواقف.
فمن منا يهمه لبنان أكثر من بيته؟ وأي فرق بين حالنا اليوم وبين الحالة في زمن الإقطاع؟! ألا يفكر نوابنا بمن ينوبون عنهم فقط، أي بمن ينتخبونهم، وينظرون إلى المواطن اللبناني الآخر نظرة من لا يعنيه أمره؟ وكم سمعت من يقول له: نائبك فلان لا أنا.
حسن جدا أن يعنى النائب بمصلحة منطقته ولكن لا يجوز أن يتنكر لغيرها. وإذا جاءه واحد لبناني فلا يصح أن يقول له: رح إلى نائبك. إن هذا الواحد يدفع لك معاشك مثل الذي تظن أنك تمثله، ومتى أوجدنا هذه التفرقة، صار علينا أن نجعل لكل دائرة ميزانية، لها ضرائبها، ولها منافعها كما أن لكل دار منافع ومرافق ...
كانوا فيما مضى يفرضون على كل قضاء مالا سموه مال الربع المجيدي، وهو مخصص للمنافع العامة. أما اليوم فالشعب كله يدفع بالسواء ضرائب غير مباشرة، وأصحاب النفوذ يتناتشون ما يجمع، يعملون لأنفسهم ويخصون أخصاءهم ولا يفكرون بالمحرومين. وإذا كان هناك نائب، ليس على الغرض، قعد مكتوف اليدين ووضعنا العصي في دواليب سيارته، فنضر الجماعة حين نضر هذا الفرد.
ناس الأوطان الأخرى يفكرون برءوسهم وقلوبهم ويعملون مخلصين، أما نحن فنفكر بأعيننا وجيوبنا، وعلى قدر عدد أحبابنا نجعل عدد نوابنا. فما زالت «النار المقدسة» تتلاعب ألسنتها، في موقد الانتخاب، فهذه الطبخة لا يتغير لها لون وطعم. فتأمين حرية الانتخاب وحرمة الناخب وصحة الانتخابات لا يكون إلا إذا تنحى «الزنابر» عن الضغط والصر، والكر والفر؛ لأن الشعب لا يفهم بالصالح غير «غرضه»، وهو لا يفكر إلا بعقل فلان، ويحشد له كل قواه، وهكذا يصل إلى النيابة من يريده فلان وفلان لا من يؤهله صلاحه.
إن الفرد عندنا ما زال مقصرا في هذا الميدان ولا يعرف قيمة نفسه. إنه غير مثقف لا يعرف أنه لا يعيش حرا إلا إذا أبرز من نفسه فرديته المتميزة التي لا يشاركه فيها إنسان ما، وأنه يعيش عبدا إذا أهمل أمر إبراز شخصيته.
ما زلنا نجر قيود تربيتنا الاجتماعية الأولى، وهي تربطنا بالأسرة والحزبية العمياء الضيقة، فنمشي عميانا متكلين على من يقودنا. لا يعنينا أن نفكر، فالأب أو الزعيم يفكر عنا. وكيف تصلح الانتخابات ما دمنا بهذه العقلية القاصرة عن إدراك كنه الشئون. يقولون - مثلا - في أميركا: حزب كذا. ونقول نحن: حزب فلان، وحزب فلان. وأي خير يرجى من فلان إذا كان فلان. قال المسيح: إن من لا ينكر أباه وأمه لا يستحقني. هذا هو لسان حال الوطن.
هناك، في أميركا يتولى الدعاة شرح صفات المرشح ومزاياه، وعلمه وفلسفته السياسية، ورأيه الخاص ونزاهته وتفكيره، أما عندنا فننظر إما إلى غرضنا وغايتنا الشخصية، وإما إلى زول المرشح وباعه وذراعه أو إلى ثرثرته وعياطه ... إن أولئك واثقون من أنفسهم، وبممارستهم هذه الحقوق تعودوا ألا يحيدوا عن الخطة المرسومة. لا يقنعهم إلا البرهان، أما نحن فنمشي ولا نسأل إلى أين.
عندهم ينتخب الغائب في أقاصي الأرض، وعندنا لا ينفع ألف شاهد عدل إذا كان في التذكرة خطأ بنقطة حزف. وقد حصل هذا فعلا، وكنا جمهورا نشهد أن هذا الشخص، حامل التذكرة ، هو الخوري بولس الحسيني، ومع ذلك لم يسمح له بالاقتراع.
منذ دهور ولبنان يتقلب من يد هالك إلى يد مالك، إلى قباض الأرواح. ومنذ أكثر من قرن ولبنان في قبضة بعض أسر معدودة يتوارثه أحفادهم وأحفاد أحفادهم. تتراوح السيادة بين أفراد كأنها كرة لعبة القدم، والصراع قائم حولها. حقا إنها لعبة كرة قدم، فكما لا يحق لغير الفريق المعين أن يتداولها، كذلك لا يحق لغير هؤلاء أن يحلموا بالرئاسات المرموقة، وهكذا أفلسنا؛ لأننا لا نحاول أن نخرج من هذه الحلقة المفرغة ... فكأن الذين يلون الأحكام حجارة داما يتلهى بها هذا الوطن في انتخابه.
Неизвестная страница