Доказательства пророка и его чудеса
بينات الرسول ﵌ ومعجزاته
Издатель
دار الإيمان
Номер издания
-
Место издания
القاهرة
Жанры
[بينات الرسول ص ومعجزاته]
مقدّمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) [آل عمران: ١٠٢] .
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيرًا وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١) [النساء: ١] .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١) .
[الأحزاب: ٧٠، ٧١] .
أما بعد:
* أين كان سكان الأرض الموجودون اليوم قبل مائة عام؟!.
* وأين سيكونون- ونحن معهم- بعد مائة عام؟!.
والجواب:
كنا في عالم الغيب، وسننتقل إلى عالم الغيب مرة أخرى!.
فنحن مسافرون بين غيب الماضي وغيب المستقبل!!.
* فمن الذي خلقنا وجاء بنا إلى هذا الوجود؟.
* وما هي صفاته؟.
1 / 3
* ولماذا خلقنا؟.
* وماذا يريد منا؟.
* وما الذي يرضيه من أفعالنا؟.
* وما الذي يغضبه علينا؟.
* ولماذا نموت؟.
* وما الذي ينتظرنا بعد الموت؟.
وما الأدلة على كل ذلك؟.
إن الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، لا يمكن أن يتركنا بدون هدى، فهو الذي خلق الكون، وهدى كل مخلوق إلى ما قدر له: هو الذي يهدي الشمس والقمر والليل والنهار، والحيوان والشجر، وجسميات أصغر الذرات إلى ما قدر لها.
وشاء الخالق سبحانه أن يهديناا، فخلق لنا أدوات العلم ونحن في بطون الأمهات كما قال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) [النحل: ٧٨] .
وبدون هذه الأدوات لا نستطيع كسب أي علم كما لا يقدر أحد أن يمنحنا شيئا منها قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) [الأنعام: ٤٦]
وما خلق الله لنا أدوات العلم التي بها نسمع ونرى ونعقل إلا وهو يريد لنا أن نتعلم.
يريدنا أن نسمع، فخلق لنا أدوات السمع.
ويريدنا أن نرى، فخلق لنا أدوات الإبصار.
1 / 4
ويريدنا أن نعقل ما نسمع ونرى، فخلق لنا القلب والفؤاد كي نعقل «١» .
وبهذه الأدوات نكتسب العلم.
وأول علم يريدنا الخالق أن نعلمه هو أن نعلم أنه لا إله إلا هو، وأن نعلم صفاته سبحانه، وأن نعلم أن محمدا رسوله الذي أرسله إلينا هاديا ومبشرا ونذيرا.
وأن نعلم الدين الذي ارتضاه لنا.
وأن نعلم مستقبلنا ومستقبل البشرية الذي نسير إليه بعد الموت الذي نخرج به من حياتنا الدنيا.
لكن هذه العلوم لا تعلم على الوجه الصحيح إلا بتعليم يأتينا من الذي خلقنا، وأحيانا، ويميتنا، ويبعثنا بعد موتنا.
لذلك أرسل الله الرسل لتعلمنا بلغة نفهم دلالاتها ومعانيها كما قال سبحانه وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) [إبراهيم: ٤] .
فلا يبقى لأحد من البشر عذر يعتذر به وحجّة يتعلق بها كما قال تعالى:
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٦٥) [النساء: ١٦٥] .
أما التائهون الذين قال شاعرهم:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت!!
ولقد أبصرت قدّامي طريقا فمشيت!!
وسأبقى سائرا إن شئت هذا أم أبيت!!
_________
(١) الفؤاد والقلب مكان عملية التعقل.
1 / 5
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟!
لست أدري!!
ولماذا لست أدري؟!
لست أدري!!
لماذا لا يدري هذا الحائر المتخبط؟
لأنه لم يعرف رسول ربه، ولم يتلق الهدى منه، فعاش تائها يتخبط في الطلاسم «١» .
والعلم بالرسول وصدقه هو: مفتاح العلم ومفتاح الهدى والفوز في الدنيا والآخرة.
لكن إيماننا بالرسول- ﷺ لا يتحقق إلا إذا عرفنا أدلة صدقه وبراهين رسالته.
وأمّا الكفار فلن يتركوا ماهم عليه من الكفر حتى تأتيهم البينة المصدقة للرسول ﷺ، كما قال ﷾: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) [البينة: ١- ٣] .
ولقد جعل الله البيّنات والمعجزات شهادات إلهية أيّد الله بها رسله حتى لا يكذبهم الناس، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ [الحديد: ٢٥] .
ويتحدى الرسول قومه أن يأتوا بمثل ما جاءهم به من المعجزات التي يعجز أمامها البشر، فتخضع رقابهم لبينة الرسول ومعجزاته، ويعلموا أنه مرسل من الله خالقهم.
_________
(١) الطلاسم هي: المعميات ... وهي اسم القصيدة التي منها هذه الأبيات للشاعر «إليا أبو ماضي» .
1 / 6
وهذه البينات والمعجزات التي يؤيد الله بها رسله هي: التي حولت سحرة فرعون الذين كانوا يقولون لفرعون قبل مواجهتهم مع موسى- ﵇: أَإِنَّ لَنا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) [الشعراء: ٤١- ٤٢] فوعدهم فرعون بما طلبوا، وزادهم أن يجعلهم من الحاشية، ولما ألقوا حبالهم وعصيّهم، وجاؤا بسحر عظيم استرهبوا به أعين الناس، أمر الله موسى أن يلقى عصاه فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) [الشعراء: ٤٥] .
ُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ
(٤٨) [الشعراء: ٤٦- ٤٨] .
فانقلب السحر على الساحر، وأسقط أمر فرعون، فتوعد السحرة: قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) [الشعراء: ٤٩] .
فكان رد الإيمان الذي وقر في قلوب السحرة بعد أن رأوا البينة والمعجزة أن قالوا: قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) [طه: ٧٢] .
رأوا البينة والمعجزة، فامنوا بالرسول، وصدّقوه، فهانت الدنيا أمام وعد الآخرة، وصغر فرعون في أعين السحرة المؤمنين، وهان الموت أمام الإيمان.
وبينات الرسول ومعجزاته هي: القنطرة التي عبر عليها الصحابة من الكفر والتكذيب إلى الإيمان واليقين. فبعد أن كانوا من المكذبين الذين يرمون الرسول بالسحر والكهانة والشعر والافتراء، صاروا يتسابقون لامتثال أمره ويهتفون قائلين: " فداك أبي وأمي يا رسول الله".
1 / 7
والعلم ببينات الرسول ومعجزاته هو: العلم الذي يجب أن يأخذ منه كل مسلم ما يثبت له صدق الرسول ﷺ، وأنه قد جاء بالحق من ربه، قال تعالى:
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) [الرعد: ١٩] .
وعلى كل مسلم أن يبلّغه أهله وأقاربه وجيرانه والناس جميعا؛ ليخرج الناس من العمى إلى الهدى.
والعلم ببينات الرسول ومعجزاته يثمر التصديق للرسول، والإيمان بالوعد والوعيد، فيثمر المحبة لله، والحرص على مرضاته، والفوز بجناته، كما يثمر الخوف من الله ومن عذاب النار.
وبهذا يتولد الدافع القوي في نفوس المؤمنين إلى فعل الطاعات واجتناب المحرمات، فيفيض الخير في المجتمع فيضا، ويغيض الشر غيضا. وتسعد البشرية بحياة مصبوغة بالفضيلة، بعيدة عن الرذيلة والجريمة.
وبينات الرسول ومعجزاته هي: العروة الوثقى التي يعتصم بها المؤمن أمام أمواج الفتن والشبهات التي لا يصمد أمامها من اكتسب إيمانه تقليدا للأباء أو مسايرة للمجتمع.
كما أنها العصمة أمام تيارات العلمانية، والثقافات المعادية للدين التي تغزو الناس بوسائل الإعلام، التي تدخل عليهم البيوت والغرف.
فكان لا بد من نشر الدواء الوافي من أمراض الشكوك ومزالق الفتن.
فرأينا أن نقدم خلاصة مفيدة لبعض بينات الرسول- ﷺ ومعجزاته التي أيّده الله بها، وأقام بها الحجّة على عباده.
ولما كان رسول الله- ﷺ هو رسول الله إلى الناس كافة، فقد جعل الله بينات رسالته ومعجزاته باقية متجددة مع كل عصر؛ تكفي كل أصناف البشر
1 / 8
على اختلاف علومهم وثقافاتهم ومداركهم.
فمن أراد البينة وجدها وشاهدها، في عصر النبي ﷺ، وما بعده، وإلى يومنا هذا، وإلى ما شاء الله.
فالقرآن هو المعجزة الكبرى الباقية بين أيدينا.
معجز في فصاحته وبلاغته.
ومعجز في علومه.
وهو سجل موثوق لمعجزات الرسالة الموثّقة بأعلى درجات التوثيق التي أقر بها المؤمن والكافر.
ومعجز في أخباره. ويمكن للناس التأكد من كل أوجه إعجازه.
وقد جعلنا الكتاب خمسة فصول:
الفصل الأول: قدمنا فيه للقارئ الكريم بعض البشارات التي لا تزال موجودة في كتب النصارى، واليهود، والهندوس، والمجوس. ونقلناها من مصادرها بلغتها الأصلية، ومن الكتب التي يقدّسها أهلها إلى يومنا هذا. وهذه البشارات من الشهادات التي استشهد الله عليها أهل الكتاب كما قال تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣) .
[الرعد: ٤٣]
وبينا في الفصل الثاني: المعجزة العلمية في القرآن والسّنّة، وتوسعنا في المعجزات العلمية القرآنية. وهذا النوع يعرفه أكابر علماء عصرنا في مجال العلوم الكونية والطبية، ويأتي هذا الإعجاز محققا لوعد الله القائل: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) [فصلت: ٥٣] .
1 / 9
وأما الفصل الثالث: فقد بينا فيه معجزة التحدي بالقرآن، ومنها فصاحة القرآن وبلاغته في مفرداته وتراكيبه، التي أعجزت فصحاء العرب وبلغاءهم، فلم يجد المكابرون والجاحدون منهم إلا أن يقولوا عنه: سِحْرٌ يُؤْثَرُ، لأن القرآن كلام الله الذي يحمل العلم الإلهي وينم عن العظمة والصفات الإلهية التي لا تحدّ بحدّ.
ومن معجزات القرآن تحدّيه للإنس والجن أن يأتوا بمثله، وأعلن القرآن للثقلين من الجن والإنس أنهم لن يقدروا على المجيء بمثل كتاب الله كما قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨) [الإسراء: ٨٨]، بل تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، كما ذكرنا علامات واضحة في القرآن تدل قارئه وسامعه أنه من عند الله ﷿ واستحالة أن يكون من عند غيره.
وأما الفصل الرابع: فقد جمعنا فيه الكثير من الخوارق المعجزة التي أيّد الله بها رسوله في كل مراحل الدعوة، مثل انشقاق القمر، ونزول الملائكة للقتال مع المسلمين، وتكثير الطعام القليل ليكفي جيش المسلمين في عدة غزوات، ونبع الماء من بين أصابعه حتى يفيض على العطشى من جيش الصحابة الذي قد يصل إلى الآلاف، وغيرها من الخوارق الشاهدة بتأييد الله لرسوله ﷺ.
وسجل بعضها القرآن كما في سورة الأنفال مذكرا بما أنزل الله على رسوله من الملائكة، والمطر، والنعاس، الذي نزل على المؤمنين أمنة. قال تعالى:
... إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنفال: ٤١] .
واستعرضنا الخوارق التي سجلت في السّنّة، وبيّنا ما امتازت به السّنّة من
1 / 10
الحفظ والتوثيق.
وجعلنا الفصل الأخير مذكرا بما بشّرنا به الرسول ﷺ من نعيم أبدي، يفوز به أهل الإيمان، وعذاب مقيم يحيط بأهل الكفر، سائلين المولى أن ينفعنا والمسلمين بما قدمنا.
كما أننا ننادي كل مؤمن غيور أن يساهم معنا في نشر حقائق الإيمان، وتذكير المسلمين بها، كما قال تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) [الذاريات: ٥٥] وكما قال تعالى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف: ١٠٨] . فمن كان من أتباع محمد ﷺ، فعليه أن يساهم في الدعوة إلى الله، كما قال ﵊" بلّغوا عني ولو آية" «١» .
فعلى الأب أن يبلغ أبناءه.
وعلى الولد أن يبلغ أهله.
وعلى الأستاذ أن يبلغ طلابه.
وعلى الشيخ أن يبلغ رواده.
وعلى القائد أن يبلغ جنده.
وعلى الزعيم أن يبلغ أتباعه.
وعلى المسلمين أن يبلغ بعضهم بعضا، وعليهم أن يبلغوا سائر الأمم.
فإذا علم الناس بينات الرسول ومعجزاته، علموا أنه الرسول الصادق، فاتبعوه، وسلكوا طريق الفلاح في الدنيا والآخرة.
وننادي أصحاب المال أن يبذلوا من أموالهم.
وأن يساهم أصحاب الجاه بجاههم.
_________
(١) أخرجه البخاري وأحمد في مسنده، والترمذي من حديث ابن عمرو.
1 / 11
وأصحاب العلم بعلمهم.
وأصحاب الجهد بجهدهم.
وأن تتشابك أيديهم بالتعاون لنشر حقائق الإيمان الذي جعله الله أفضل الأعمال كما قال سبحانه: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
(١٩) [التوبة: ١٩] .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
تأليف فضيلة الشّيخ عبد المجيد الزندانيّ غفر الله له ولوالديه ولسائر المسلمين
1 / 12
الفصل الأول وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ البشارات في الكتب السابقة
1 / 13
الفصل الأول البشارات
تمهيد:
شاء الله سبحانه أن ينقذ البشرية في الحقبة الأخيرة من تاريخها- على حين فترة من الرسل- برسالة خاتمة لجميع الرسالات السابقة صالحة لكل زمان ومكان إلى قيام الساعة، فاختار سبحانه لهذه المهمّة عبده ورسوله محمدا ﷺ النبي العربي الأمي، وأهله لحمل هذه الرسالة، وجعل له قبل مجيئه وظهوره إلى الدنيا مقدمات وبشارات تنبئ وتبشر بظهوره، وأخذ الله سبحانه الميثاق على جميع الأنبياء بالتصديق بمحمد ﷺ إذا جاءهم، قال سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) [آل عمران: ٨١] .
قال قتادة: هذا ميثاق أخذه الله على النبيين أن يصدّق بعضهم بعضا، وأن يبلغوا كتاب الله ورسالاته، فبلغت الأنبياء كتاب الله ورسالاته إلى قومهم، وأخذ عليهم- فيما بلغهم رسلهم- أن يؤمنوا بمحمد ﷺ ويصدقوه وينصروه «١» .
وأشار- سبحانه- إلى القرآن العظيم في كتب الأنبياء السابقين كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) [الشعراء: ١٩٦] أي: أن ذكر هذا القرآن موجود ومنوّه به في كتب الأنبياء السابقين، وهذا الكتاب هو الرسالة التي حملها النبي الخاتم إلى البشرية.
_________
(١) أخرجه الطبري بسند حسن كما في التفسير الصحيح ١/ ٤٣٠.
1 / 15
ومن ثمّ تناقلت أمم الأرض عن طريق الأحبار والرهبان والكهان خبر النبي الخاتم الذي بشّرت به النبوات السابقة، ولما انقطعت الرسالة بعد عيسى ﵇ فترة من الزمن «١»، زاد تلهف أمم الأرض إلى النّبيّ الخاتم، وكان عيسى ﵇ هو آخر من بشر بمحمد ﷺ من الأنبياء كما قال تعالى عنه في خطابه لبني إسرائيل:
يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: ٦] وبدأ أهل الكتب وغيرهم كالهندوس والمجوس يتوقعون قرب ظهوره بناء على ما يجدونه في كتبهم وأخبار أنبيائهم من الوعد بمقدمه والإخبار بزمان ظهوره ومكانه.
وقد سجّل التاريخ في هذه الفترة مقدمات وحوادث تدل على قرب مقدمه وظهوره ﷺ، منها ما كان قبل مولده، ومنها ما كان عند مولده، ومنها ما كان قبل بعثته.
فأمّا ما كان قبل مولده فمنه تناقل الأحبار والرهبان لذكر النبي الخاتم، بل كان اليهود في بلاد العرب عندما يقاتلون قبيلة من العرب يخوفونهم بقرب مبعث نبي يقاتلونهم معه فكانوا يقولون سيبعث نبي آخر الزمان نقتلكم به قتل عاد وإرم وكانوا يدعون بين يدي قتالهم مع العرب بقولهم: " اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان". فلما ظهر النّبيّ من غير بني إسرائيل كفروا به كما قال تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) [البقرة: ٨٩] .
ومن الإرهاصات على قرب مقدم النّبيّ أن الراهب" عيصا" الذي ترك بلاد
_________
(١) الفترة بين عيسى ومحمد ﵉ تقدر بستمائة عام، قال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ [المائدة: ١٩] .
1 / 16
الشام وقدم إلى قرب مكة أخبر أهل مكة أنه قد حان زمن النبي الذي تدين له العرب والعجم، والذي سيكون من أهل مكة «١» .
وإنما كان أهل الكتاب يعرفون ذلك من كتبهم وأخبار أنبيائهم كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: ١٥٧] .
ومن الإرهاصات على مقدمه في عام ولادته أن الله سبحانه أهلك نصارى الحبشة القادمين من اليمن لهدم الكعبة المشرفة التي ستكون قبلة للرسول القادم وأمّته، مع أن قريشا كانت قد أعلنت تخليها عن البيت لعجزها عن الدفاع عنه، حيث قال عبد المطلب: للبيت رب يحميه ومعلوم أن هذا الإهلاك لم يكن لأجل المشركين، وإنما كان ذلك حماية لقبلة الرسول القادم وأمته. قال تعالى:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥) [الفيل: ١- ٥] .
ومن إرهاصات مقدمه إلهام الله لجدّه عبد المطلب أن يختار له الاسم الفريد بين قومه" محمد" والذي تطابق مع ما جاء في البشارات السابقة، دون علم من جده أو أحد من أهله بذلك.
ومن ذلك خاتم النبوة الذي كان علامة مميزة على ظهره الشريف تدل على نبوته كما ذكر ذلك في الكتب السابقة «٢»، وقد روي أن أحد أحبار اليهود
_________
(١) الخصائص الكبرى للسيوطي ١/ ٥٠، وقد أورد كثيرا من الأخبار عن إرهاصات مقدم محمد ﷺ، فمن أحب الازدياد من ذلك فليرجع إليه.
(٢) أخبر أحد رهبان النصارى سلمان الفارسي ﵁ أن من علامات النبي الخاتم أن على ظهره خاتم النبوة، وتعرف عليه بعد ذلك في المدينة النبوية بهذه العلامة كما أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
1 / 17
أغمي عليه عندما رأى علامة خاتم النبوة على مولود في مكة من غير بني إسرائيل «١»؛ لأنه وقومه اليهود كانوا يتمنون أن يكون من بني إسرائيل.
ومن الإرهاصات في أول طفولته البركة التي حلت في بيت مرضعته حليمة السعدية حيث كانت أنعامهم تروح شباعا ممتلئة باللبن الكثير، بينما كانت تلك البلاد مجدبة والناس يشكون جوع الأنعام «٢» .
ومن الإرهاصات حادثة شق الصدر، وهو صغير أخبر أنس ﵁: أن رسول الله ﷺ أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه واستخرج القلب ثم شق القلب، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه فأعاده مكانه وجعل الغلمان يسعون إلى أمه [أي مرضعته] فقالوا: إن محمدا قد قتل!! فجاؤه وهو منتقع اللون، قال أنس: فلقد كنت أرى أثر المخيط في صدره «٣» .
حفظه من الرذائل والمنكرات:
مع أنه شاب عاش في بيئة جاهلية وبين جاهليين، لم يذكر عنه شيء من الرذائل، ولو عرف شيء من ذلك لعيب به، لا سيما مع حرصهم الشديد على إلصاق التهم- الكاذبة- به بعد نبوته.
ومع ذلك عاش محفوظا من الرذائل طوال عمره. وقد قال سبحانه: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) [المؤمنون: ٦٩] .
وقال- سبحانه- مرشدا رسوله أن يقول لهم: ... فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يونس: ١٦] .
_________
(١) الخصائص الكبرى للسيوطي ١/ ٤٩.
(٢) رواه ابن حبان والطبراني وقال الذهبي: هذا حديث جيد الإسناد. انظر صحيح السيرة النبوية ص ٥٢.
(٣) أخرجه أحمد ومسلم.
1 / 18
وفي خلال هذه الفترة عرف قومه صدقه ونزاهته وأمانته وكريم أخلاقه حتى عرف بينهم بالصادق الأمين، وأمّنوه على ودائعهم وأماناتهم واستمر ذلك منهم حتى أثناء خصومتهم له بعد النبوة، فهل يعقل ممن هذه صفاته أن يصدق الناس ويكذب على الله، ويحفظ أمانات الناس ويخون أمانة الله؟.
ومن الإرهاصات أن قريشا كانت تدعوه بالأمين.
تسميته ﷺ بالأمين:
فقد اختصمت قريش من يرفع الحجر الأسود عندما أعادوا بناء الكعبة، فحكّموا بينهم أول داخل، فدخل رسول الله ﷺ فقالوا: قد جاء الأمين" «١» .
ومن حفظ الله له أنه هم أن يستمع للغناء في سمر مع أهل مكة في ليلتين فعصمه الله منهما، بأن ألقى عليه النوم حتى أصبح «٢» .
ومن مقدمات بعثته أن حجرا كان يسلّم عليه:
قال النبي ﷺ: «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن» «٣» .
ومن مقدمات بعثته الرؤيا الصالحة (الصادقة) وتحبيب التعبد إليه:
قالت عائشة ﵂: أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه" وهو التعبد" الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق (الوحي)،
_________
(١) رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي. انظر صحيح السيرة النبوية ص ٦٤.
(٢) رواه ابن إسحاق، وإسحاق بن راهوية والبزار وابن حبان، قال الحافظ: وإسناده حسن متصل انظر سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد لمحمد بن يوسف الصالحي ٢/ ١٤٨ وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(٣) أخرجه مسلم وأحمد.
1 / 19
وهو في غار حراء «١» .
الذين أسلموا بسبب البشارات:
وأما بعد بعثته ﷺ، فقد شاهدنا سرعة إقبال أهل المدينة على الإسلام يحثهم على ذلك ما كانوا يسمعونه من اليهود عن مقدمه، وما كانوا يستفتحون به على أعدائهم كما بينا، بينما كان أهل مكة يصدون عنه ويحاربونه.
وكان عبد الله بن سلام ممن أسلم أيضا على هذه البشارات وهو أعلم أحبار اليهود القاطنين في المدينة المنورة باعتراف اليهود أنفسهم، وهو ممن قال الله تعالى فيه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) [الأحقاف: ١٠]، وكان عبد الله بن سلام قد بلغه مقدم النبي ﵌ المدينة، فأتاه يسأله عن أشياء فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ: ما أول أشراط الساعة؟، وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو أمه؟، قال: أخبرني به جبريل آنفا. فقال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة. قال: «أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب.
وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد»، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، فاسألهم عنى قبل أن يعلموا باسلامي. فجاءت اليهود؛ فقال النبي ﵌: «أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟» قالوا خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا فقال النبي ﵌: «أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟» قالوا: أعاذه الله من ذلك، فأعاد عليهم، فقالوا مثل
_________
(١) البخاري ك/ بدء الوحي ب/ حدثنا يحيى بن بكير.
1 / 20
ذلك. فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله.
قالوا: شرنا وابن شرنا، وتنقصوه. قال: هذا كنت أخاف يا رسول الله «١» .
وكان زيد بن سعنة ممن أسلم على هذه البشارات أيضا، وهو من علماء اليهود حيث تعرف على صفات النبي ﷺ، والتي منها أنه لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما «٢» .
_________
(١) أخرجه البخاري ك/ مناقب الأنصار ب/ حدثني حامد بن عمر.
(٢) أخرج الطبراني عن عبد الله بن سلام ﵁ قال: إن الله ﷿ لما أراد هدى زيد بن سعنة قال زيد ابن سعنة: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد ﷺ حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيد شدة الجهل عليه إلا حلما. قال زيد بن سعنة: فخرج رسول الله ﷺ يوما من الحجرات- ومعه علي بن أبي طالب- فأتاه رجل على راحلته كالبدوي، فقال: يا رسول الله، لي نفر في قرية بني فلان قد أسلموا ودخلوا في الإسلام، وكنت حدثتهم إن أسلموا أتاهم الرزق رغدا. وقد أصابهم سنة وشدة وقحط من الغيث، فأنا أخشى يا رسول الله- أن يخرجوا من الإسلام طمعا كما دخلوا فيه طمعا؛ فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء يغيثهم به فعلت. فنظر إلى رجل إلى جنبه- أراه عليا- فقال: يا رسول الله ما بقي منه شيء. قال زيد بن سعنة: فدنوت إليه فقلت: يا محمد، هل لك أن تبيعني تمرا معلوما في حائط بني فلان إلى أجل معلوم، إلى أجل كذا وكذا. قال: " لا تسم حائط بني فلان" قلت: نعم، فبايعني، فأطلقت همياني فاعطيته ثمانين مثقالا من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا، فأعطاه الرجل وقال: " اعدل عليهم وأغثهم". قال زيد بن سعنة: فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة خرج رسول الله ﷺ ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ﵃ في نفر من أصحابه، فلما صلى على الجنازة ودنا إلى الجدار ليجلس إليه أتيته، فأخذته بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ، وقلت له: يا محمد، ألا تقضيني حقي؟ فوالله، ما علمتكم بني عبد المطلب إلا مطلا، ولقد كان بمخالطتكم علم. ونظرت إلى عمر وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره فقال: يا عدو الله، أتقول لرسول الله ﷺ ما أسمع؟ وتصنع به ما أرى؟، فوالذي نفسي بيده لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله ﷺ ينظر إلى في سكون وتؤده فقال: " يا عمر، أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا، أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن اتباعه. اذهب به يا عمر، فأعطه حقه وزده عشرين صاعا من تمر مكان ما رعته". قال زيد: فذهب بي عمر فأعطاني حقي وزادني عشرين صاعا من تمر. فقلت: ما هذه الزيادة يا عمر؟! قال: أمرني رسول الله ﷺ أن أزيدك مكان ما رعتك. قال: قلت: وتعرفني يا عمر؟! قال: لا قلت: أنا زيد بن سعنة. قال: الحبر؟ قلت: الحبر. قال: فما دعاك إلى أن فعلت برسول الله ما فعلت، وقلت له ما قلت؟! قلت: يا عمر لم يكن من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفت في وجه رسول الله ﷺ حين نظرت إليه إلا اثنتين، لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده-
1 / 21
وممن أسلم على ذلك أيضا من اليهود كعب الأحبار بعد معرفته بتلك البشارات، وقد سأله عبد الله بن عباس كيف تجد نعت رسول الله ﷺ في التوراة فقال كعب: نجده محمد بن عبد الله، يولد بمكة ويهاجر إلى طابة ويكون ملكه بالشام، وليس بفحاش ولا صخاب بالأسواق، ولا يكافئ بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، أمته الحمادون يحمدون الله في كل سراء وضراء ويكبرون الله على كل نجد، يوضؤون أطرافهم ويأتزرون في أوساطهم، يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم، دويّهم في مساجدهم كدوي النحل، يستمع مناديهم في جو السماء" «١» .
وكان ممن أسلم- أيضا- على هذه البشارات جماعة من أهل الكتاب من نصارى الحبشة، ذكرهم الله- سبحانه- بقوله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) [القصص: ٥٢- ٥٤] .
وقد ورد في الروايات التاريخية أن وفدا من نصارى الحبشة قدموا على النبي ﷺ، فسألوه عن الدين فأجابهم وعرفوا من أوصافه ما في كتبهم فأسلموا فكان ذلك مثار حنق وأذية المشركين لكن هذا الوفد أعرض عنهم كما قال تعالى:
وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) [القصص: ٥٥] .
_________
شدة الجهل عليه إلا حلما. وقد اختبرتهما، فأشهدك- يا عمر- أني قد رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وأشهدك أن شطر مالي- فإني أكثرها مالا- صدقة على أمة محمد ﷺ. قال عمر: أو على بعضهم فإنك لا تسعهم، قلت: أو على بعضهم. فرجع عمر وزيد إلى رسول الله ﷺ، فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وآمن به وصدقه وبايعه، وشهد معه مشاهد كثيرة؛ ثم توفي في غزوة تبوك مقبلا غير مدبر. رحم الله زيدا. قال الهيثمي ٨/ ٢٤٠: رواه الطبراني ورجاله ثقات؛ وروى ابن ماجه منه طرفا.
(١) سنن الدارمي ج ١/ ١٧.
1 / 22
وكان ممن أسلم على البشارات في الكتب السابقة سلمان الفارسي ﵁ الذي لقي أحد رهبان النصارى فذكر له علامات النبي المنتظر، وصفة المدينة ذات النخل التي سيهاجر إليها النبي وهيأ الله لسلمان الفارسي أسبابا ساقته إلى المدينة المنورة فانطبقت عليها أوصاف المدينة التي ذكرها له الراهب فمكث فيها حتى جاءها النبي مهاجرا فتعرف على صفاته التي ذكرت له وأسلم بعد أن رأى التطابق بين الوصف والحقيقة.
وكان ممن صدق بالنبي ﷺ من أهل الكتاب ورقة بن نوفل القرشي الذي كان على الديانة النصرانية، فعند ما قصّ له النبي ﷺ ما جاءه من الوحي بواسطة الملك جبريل قال: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى ...، ثم تمنى أن يطول به العمر لنصر النبي ﷺ حين يعاديه الناس «١» .
وكان ممن صدق النبي ﷺ من النصارى ملك الحبشة، حيث سمع من أصحاب النبي ﷺ حقيقة دين الإسلام المطابق لما جاء به عيسى ﵇ «٢»، ولذلك دخل في الإسلام، وصلى عليه النبي ﷺ حين وفاته.
وممن أسلم من النصارى أيضا عديّ بن حاتم الطائي عندما سمع نقد بعض الأمور في ديانته من النبي ﷺ «٣» .
وممن أقر بنبوة محمد ﷺ ولم يدخل في الإسلام هرقل ملك النصارى الروم الذي قال لأبي سفيان بن حرب (بعد أن سأله عن أحوال وصفات محمد ﷺ:
قد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه
_________
(١) البخاري ك/ بدء الوحي ب/ حدثنا يحيى بن بكير.
(٢) انظر السيرة النبوية لابن هشام ١/ ٣٧٤ دار إحياء التراث العربي.
(٣) فقد روي أن النبي ﷺ قال له: إيه يا عدي بن حاتم! ألم تك ركوسيا؟ قال: قلت بلى. قال: أولم تكن تسير في قومك بالمرباع؟ قال: قلت: بلى، قال: فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك قال: قلت: أجل والله، وقال: وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل. انظر السيرة النبوية لابن كثير ٤/ ١٢٣ دار إحياء التراث العربي.
1 / 23