Paradise Under Your Feet
الدفاع عن الله ورسوله وشرعه
Жанры
الدفاع عن الله ورسوله وشرعه - الرد على منكري الشفاعة
الشفاعة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، وهي من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة، ومن أنكرها فقد خالف ما عليه إجماع المسلمين، وهي أنواع، منها الشفاعة العظمى، وسائر شفاعات سيد المرسلين، فإنه ﵊ يشفع للمؤمنين الصالحين والعصاة الموحدين، ومنها شفاعة المؤمنين والملائكة، والأبناء الصالحين والأبناء الذين لم يبلغوا الحلم لآبائهم، وفوق ذلك كله شفاعة رب العالمين.
1 / 1
إخبار عمر الناس بمجيء أقوام ينكرون الشفاعة والرجم والدجال وعذاب القبر وغير ذلك
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أخرج أحمد في مسنده بسند حسن عن ابن عباس ﵄: (أن عمر بن الخطاب ﵁ خطب الناس يومًا فكان مما قال: إنه سيأتي أقوام من بعدكم يكذبون بالرجم وبـ الدجال وبالشفاعة وبعذاب القبر وبقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا فيها، أي: بعد أن صاروا فيها فحمًا).
فهذا الأثر يدل على أن هذه الأمور مستقرة لدى السلف، لم يكن أحد منهم يكذب بواحدة منها، فالرجم ثابت في كتاب الله وفي سنة النبي ﵊، ولم يثبت عن واحد من السلف أنه كذب به، والدجال حقيقة لا خرافة، وبه صحت الآثار والأحاديث التي بلغت حد التواتر وزيادة، والشفاعة جاءت في كتاب الله ﷿، وفي سنة النبي ﵊ وفي آثار الصحابة كذلك، بل في أشعار العرب، وعذاب القبر حق، وهو جزء أصيل من عقيدة أهل السنة والجماعة، والشفاعة المعقودة يوم القيامة، وهي متنوعة وأقسام سنتعرف عليها، وهي موضوع حديثنا في هذه اللحظات.
أخرج الآجري في كتاب الشريعة -وهو كتاب قد وضع لبيان مسائل الاعتقاد- قال: قال النبي ﵊: (من كذب بشفاعتي فليس له نصيب منها)، والصحيح: أن هذا الأثر موقوف على أنس، وسواء كان موقوفًا أو مرفوعًا فإنه لابد من الحكم برفعه؛ لأنه لا مجال للرأي فيه، فلابد أن يكون خبرًا عن المعصوم ﵊.
إذا تكلمنا عن الشفاعة فالكلام فيها يطول، والأحاديث فيها متعددة، ولكن لما كان هذا موضوع الساعة يحسن بنا أن نعرج على بعض الآثار الواردة فيه، ولذا فإن منكر الشفاعة لابد أن يكون واحدًا من ثلاث: إما أن يكون ملحدًا في أسماء الله وصفاته، وفي أخبار الغيب التي هي من أعظم الأمور في الإيمان، فإننا لم نر الله ﷿، ومع ذلك فقد آمنا به، ولم نر النبي ﵊ ومع ذلك فإننا نؤمن به، ولم نر الجنة ولا النار ولا الصراط ولا الحساب ولا الجزاء ولا العقاب ومع هذا فقد آمنا بكل ما أخبرنا الله ﷿ به، وأخبرنا به نبينا ﵊.
ومنها الشفاعة؛ لأنه لم يكن منها شيء في الدنيا إلا ما كان متعلقًا بأمور الدنيا، كما في قوله ﵊: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما يشاء)، فإذا كان ملحدًا أوكلنا أمره إلى الله ﷿ يعامله بما يستحق، وإن كان مؤديًا لرسالة أعداء الإسلام بلسان محمد وأحمد وعبد الله وإبراهيم وغير ذلك من أسماء المسلمين، فإننا نكل أمره إلى الله، ولا طاقة لنا بلقائه، وإن كان معتزليًا ينكر هذا كما أنكرته المعتزلة قديمًا بحجة أن ذلك طريقه آحاد ولا يقوى للاحتجاج به في مسائل الاعتقاد، فإننا نقول: إن هذا المعتقد إنما هو دسيسة لا علم لسلفنا بها، وهذا المعتقد البدعي الذي أتت به المعتزلة لم يكن معلومًا لدى النبي ﵊ ولا عند أصحابه، فهو بدعة محدثة وضلالة، أن خبر الواحد لا ينهض للاحتجاج به في مسائل العقيدة، ويكفينا من ذلك قول الله ﷿: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر:٧]، ولم يقل سبحانه: وما آتاكم الرسول بخبر التواتر فخذوه، وإنما قال: «فَخُذُوهُ» بغير تقييد، دل ذلك على صلاحيته في الاحتجاج سواء كان آحادًا أو تواترًا.
فكل خبر رواه الثقة عن مثله إلى منتهاه حتى يبلغ قائله فهو حجة في دين الله ﷿، سواء كثرت الطرق إليه أم قلت، وهذا معتقد جماهير علماء الإسلام، لاسيما في ذلك أن الله تعالى نفى الإيمان عمن رد شيئًا من ذلك: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:٦٥].
والنبي ﵊ كان يرسل أصحابه في الأمصار والولايات ليعلموا الناس الدين، وأعظم ما كانوا يعلمونهم هي مسائل الاعتقاد ومن بينها الشفاعة، فلا مناص لمسلم يدعي أنه يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر وما فيه إلا أن يؤمن بالشفاعة، أما عن الآثار أو الآيات التي تعلقت بها، فمن الآيات ما ينفي ثبوت الشفاعة، ومنها ما يثبت ثبوت الشفاعة، فإذا ثبت هناك آيات تنفي الشفاعة وآيات تثبت الشفاعة، فإما أن نقول: إن هذا القرآن من عند غير الله، وبذلك يكفر من يقول ذلك، وإما أن نقول: هناك آيات نفت شفاعة معينة مقيدة بقيود، وهناك آيات أثبت
1 / 2
الجمع بين الآيات التي تثبت الشفاعة والآيات التي تنفيها
أما الآيات التي وردت تنفي وتثبت الشفاعة؛ فهي قول الله ﷿: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس:١٨].
هذه الآية ادعى فيها المشركون أن لهم شفعاء، فالله ﷿ نفى عنهم ذلك، وهي تدل دلالة عظيمة على أنه لا شفاعة لأحد عند الله إلا إذا كان قادرًا على هذه الشفاعة.
فالشرط الأول: الشفاعة بالحق.
قال تعالى: ﴿وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف:٨٦].
إذًا: هناك شفاعة، ولكن لا شفاعة لأحد إلا إذا كان يشفع بالحق وهو يعلم أنه يشفع بالحق.
والشرط الثاني: إسلام المشفوع له؛ لأنه لا شفاعة لمشرك قط إلا لـ أبي طالب، قال الله تعالى: ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ [غافر:١٨]، والظالمون هم الكافرون، فما لهم من شفيع ولا حميم، ويستثنى من المشركين أبو طالب كما قلنا؛ لما أخرجه البخاري ومسلم من حديث العباس بن عبد المطلب ﵁ قال: (يا رسول الله! أرأيت أبا طالب وما كان يحوطك به ويغضب لك.
أينفعه ذلك؟) وأبو طالب مات على الكفر البواح على الشرك، ولم يقبل دعوة الله ولا هداه.
قال: (أينفعه ذلك يا رسول الله؟! قال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فإني أشفع له، فيخرج من قعر جهنم إلى ضحضاح) أي: ما زال باقيًا فيها.
وفي رواية عند البخاري ومسلم: أن النبي ﵊ قال: (إن أهون أهل النار عذابًا لرجل يخرج من قعر جهنم حتى يقف على جمرتين يغلي منهما دماغه هو أبو طالب).
فشفاعة النبي ﵊ أخرجت أبا طالب من أسفل سافلين إلى ضحضاح -ضاحية- من النار يقف على حجرين من نار يغلي منهما دماغه، ومع هذا نفعته شفاعة النبي ﵊.
الشرط الثالث: الإذن للشافع؛ لأنه لا يأذن عند الله أحد إلا بإذن؛ ولذا قال: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة:٢٥٥]؟ لا أحد.
والشرط الرابع: الرضا عن المشفوع له، وإن الله لا يرضى عن مشرك قط، وإنما يرضى عن المسلم وإن كان صاحب كبيرة، فإن الله يرضى بالشفاعة له، كما قال تعالى: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ [النجم:٢٦].
فهذه هي الشروط التي اشترطها الله ﷿ لحدوث الشفاعة يوم القيامة، وبهذه الشروط نستطيع أن نجمع بين الآيات التي تنفي الشفاعة والآيات التي تثبتها.
1 / 3
الشفاعة الكبرى يوم القيامة وما ثبت فيها
أما موضوع الشفاعة العظمى والشفاعة الكبرى فهي الحادثة يوم القيامة، وصاحبها هو صاحب الشفاعة العظمى نبينا ﵊.
وإن الأحاديث التي وردت تثبت الشفاعة للنبي يوم القيامة قد بلغت حد التواتر، ومن قال بغير ذلك فلا علم له بسنة النبي ﵊، وإنما يهرف ويخرف بما لا يعرف، وهو لا يعرف النص المتواتر من غيره، ولم يدرس دين الله ﷿، ولم يتعرف عليه لا من قريب ولا من بعيد، وكثير من الناس يتكلم في دين الله ﷿ دون أن تربطه بالكتاب والسنة أي رابطة، فيأتي بالأعاجيب، بل ينكر ويرد كثيرًا من المعلوم من دين الله بالضرورة، فهو على خطر عظيم جدًا.
ولعلكم قرأتم مجلة الحوادث الصادرة في هذا الأسبوع أن امرأة أنكرت معجزات الأنبياء، وأنكرت أن الله ﷿ نجى إبراهيم من النار، وأنكرت أن يونس ﵇ ابتلعه الحوت، وأنكرت الإسراء والمعراج للنبي ﵊، وقالت: إنما ذلك تهيؤات وتخيلات! لماذا؟! وأقحمت هذا الفصل في رسالتها في علم النفس، ولا علاقة لهذا الفصل بأصل الرسالة، وحازت على مرتبة الشرف الأولى! وهناك مشكلة قائمة بين جامعات مصر وجامعة عين شمس التي منحت هذه الرسالة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والذي يقف معها ويؤيدها أكثر من الذي ينكر عليها أنها أنكرت معلومًا من دين الله بالضرورة.
وإنا لا ندري إلى أي حد ستستمر هذه المهزلة، مهزلة زعزعة الثوابت في حياة المسلمين وفي معتقدهم.
1 / 4
حديث أبي هريرة وأنس في الشفاعة الكبرى يوم القيامة
أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ﵁: (أن النبي ﵊ أتي بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغهم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، اذهبوا إليه، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيأتون آدم ﵇ فيقولون له: أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟! فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولم يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح! إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي ﷿ قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي.
نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم ﵇، فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات -فذكرهن أبو حيان في الحديث- ثم قال: نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى ﵇، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى! أنت رسول الله فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس.
اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسًا لم أومر بقتلها.
نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى! أنت رسول الله وكلمته إلى مريم وروح منه، وكلمت الناس في المهد صبيًا، اشفع لنا، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله -ولم يذكر ذنبًا لنفسه- ثم قال: نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد ﷺ، فيأتون محمدًا، فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.
اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ قال النبي ﵊: فأنطلق، فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا لربي ﷿، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك.
سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأقول: يا رب! أمتي يا رب! أمتي، فيقال: يا محمد! أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال النبي ﵊: والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة -أي: ما بين قائمي الباب الواحد من أبواب الجنة- كما بين مكة وحمير -كما بين مكة واليمن- وفي رواية: أو كما بين مكة وبصرى -وهي اسم بلد من بلاد الشام-، وفي رواية: ما بين مكة وهجر).
هذا الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم، وأخرجاه كذلك من حديث أنس أن النبي ﵊ قال: (يجتمع الله المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم! أما ترى الناس ويذكرونه بما ذكروه من قبل حتى يأتوا محمدًا ﵊ عبدًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال النبي ﷺ: فيأتونني فأنطلق فأستأذن على ربي، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيت ربي وقعت ساجدًا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي: ارفع محمد ارفع محمد، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع.
فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أشفع فيحد الله ﷿ لي حدًا فأدخلهم الجنة -يعني: يقسم لي من الناس قسمًا فيدخلون الجنة بشفاعة النبي ﵊ ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت ساجدًا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال: ارفع محمد قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأحمد ربي بمحامد علمنيها ثم أشفع، فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة، ثم أرجع، فإذا رأيت ربي وقعت ساجدًا حتى قال النبي ﵊: يا رب! ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود).
يا رب! لم يبق في النار أحد إلا من حبسه كفره بالقرآن الكريم، فهو من أهل الخلود فيها، فإنه لا شفاعة حينئذ.
وعند البخاري ومسلم من حديث مع
1 / 5
حديث أبي هريرة وحذيفة في الشفاعة الكبرى يوم القيامة
وعند مسلم من حديث أبي هريرة وحذيفة ﵄ قالا: قال رسول الله ﷺ: (يجمع الله ﵎ الناس، فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة -أي: تقرب لهم الجنة-، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا! استفتح لنا الجنة -اطلب من ربك أن يفتحها لنا-، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم؟! لست بصاحب ذاك، اذهبوا إلى ابني إبراهيم ﵇ ويذكر بقية الأنبياء حتى يصل إلى النبي ﵊، فيقوم فيؤذن له، وترسل الأمانة والرحم، فتقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالًا، فيمر أولكم كالبرق، كما يمر ويرجع في طرفة عين، ثم كالريح، ثم كمر الطير وشد الرجال تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلم! يا رب سلم، حتى تعجز أعمال العباد، وحتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفًا، قال: وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ ما أمرت به، فمخدوش ناج ومكدوس في النار، والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعون خريفًا) إن قعر جهنم لسبعون خريفًا تحت الأرض.
وهذا الحديث أخرجه كذلك الإمام أحمد بن حنبل والدارمي في سننه وغيرهم من أهل العلم كثير، ولا أظن أن الوقت يسمح بسرد جميع النصوص.
1 / 6
أحاديث متفرقة في إثبات الشفاعة الكبرى لرسول الله ﷺ
وعن البخاري من حديث آدم بن علي قال: سمعت ابن عمر ﵄ يقول: (إن الناس يصيرون يوم القيامة جثًا -يعني: يبركون على ركبهم- كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان! اشفع لنا.
حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي ﷺ، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود)، والمقام المحمود: هي الشفاعة الثابتة للنبي ﵊.
وعند مسلم من حديث أبي هريرة ﵁ قال: قال النبي ﵊: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر ويأتي إلى ربه، وأول شافع، وأول مشفع) ﵊.
وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة ﵁ قال: (قال النبي ﵊ في قوله: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء:٧٩] قال: هي الشفاعة)، فالشفاعة من كذب بها فقد كذب بالقرآن، أي: بالمقام المحمود المذكور في القرآن.
وفي حديث أبي سعيد عند أحمد: قال النبي ﵊: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع يوم القيامة ولا فخر).
لماذا أصر على تكرار هذه الآثار والأحاديث رغم أنها تدل على معنى واحد وهو إثبات الشفاعة؟ لأبين لك أن هذه العقيدة أتت إلينا بطريقة التواتر كالقرآن الكريم تمامًا، فمن كذب بها فقد كذب بالقرآن، وغير ذلك من الطرق والروايات التي أتت بالشفاعة العظمى للنبي ﵊؛ لأبين لك أن من قال: إن الشفاعة أتت بطريق الآحاد ليس له حظ علم في ذلك، بل هي متواترة، أو قد يقول قائل: إن الشفاعة لا تدخل في حدود العقل والعقل لا يتصورها.
فنقول له: دع عنك عقلك وآمن بالله العظيم، ولو أن لك عقلًا لسألناك عن كل غيب لله ﷿.
أتى رجل من المبتدعة إلى عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى إمام من أئمة السنة، وقال: يا إمام! يسأله في ذات الله ﷿، وإن كان اللسان والقلب لا يقوى على سرد ذلك الآن، لدلالة جرحه، فقال ابن مهدي: يا فلان! يرحمك الله، دع عنك هذا وسل عن المخلوق، فإن الخالق لا يعلم كنهه أحد إلا الله، بل من المخلوقات من لا يعلمها إلا الله ﷿، ألا تعلم أن الله تعالى خلق جبريل ﵇ وله ستمائة جناح؟ قال: بلى، قال: صف لي جبريل ﵇ على هيئته التي خلقه الله عليها؟ صف لي مخلوقًا له ستمائة جناح؟ فعجز الرجل أن ينطق بجواب، فقال ابن مهدي: وأنا أعافيك من خمسمائة وسبعة وتسعين جناحًا، صف لي مخلوقًا واحدًا بثلاثة أجنحة، وركب الجناح الثالث حيث ركبه الله ﷿، فعجز الغلام واعتذر لـ عبد الرحمن بن مهدي ولم يتكلم في ذات الله ﷿ بعد ذلك.
هذا الأثر إنما نسوقه لوجوب الإيمان بالغيب الذي أمر الله ﷿ به، حتى وإن لم يكن ذلك في مقدور عقولنا، ومتى كان العقل يحكم على النص؟! إن ذلك منهج عقلي اعتزالي لا قيمة له عند أهل السنة والجماعة.
ومن حديث أبي بن كعب عند مسلم، قال: (كنت في المسجد فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه)، وأنتم تعلمون أن أبي بن كعب من قراء الصحابة، بل من أسياد قراء الصحابة.
فلما قرأ ذلك الرجل قراءة أنكرها أبي لا علم له بها، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه أنكرها كذلك أبي ودخل ثالث، فلما قضوا الصلاة قال: (إنكم قرأتم قراءة أنكرتها، فقالوا: نذهب إلى النبي ﵊، فقرأ كل واحد بالقراءة التي قرأها أمام النبي ﵊ فأقر الجميع ونصح أبيًا بذلك) وفي آخر الحديث: قال النبي ﵊: (فلك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها، فقلت: يا رب! اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلائق، حتى إبراهيم ﵇ يأتي إلى النبي ﵊ في هذا المحشر وفي هذا الموقف فيسأله الشفاعة له وللناس)، وفي رواية: (واختبأت الثالثة شفاعة لأمتي يوم القيامة).
وعن أبي بن كعب أن النبي ﵊ قال: (إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر)، يعني: لست أفاخر بذلك، ولكني أخبركم بما سيكون يوم القيامة.
وعند البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله ﵄ قال: قال النبي ﵊: (أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي) يعني: خص النبي ﵊ بخمس، وخصائصه كثيرة، لكن هذا الحديث أثبت خمسًا.
قا
1 / 7
أنواع من الشفاعة
أما موضوع الشفاعة العظمى والشفاعة الكبرى فهي الحادثة يوم القيامة، وصاحبها هو صاحب الشفاعة العظمى نبينا ﵊.
وإن الأحاديث التي وردت تثبت الشفاعة للنبي يوم القيامة قد بلغت حد التواتر، ومن قال بغير ذلك فلا علم له بسنة النبي ﵊، وإنما يهرف ويخرف بما لا يعرف، وهو لا يعرف النص المتواتر من غيره، ولم يدرس دين الله ﷿، ولم يتعرف عليه لا من قريب ولا من بعيد، وكثير من الناس يتكلم في دين الله ﷿ دون أن تربطه بالكتاب والسنة أي رابطة، فيأتي بالأعاجيب، بل ينكر ويرد كثيرًا من المعلوم من دين الله بالضرورة، فهو على خطر عظيم جدًا.
ولعلكم قرأتم مجلة الحوادث الصادرة في هذا الأسبوع أن امرأة أنكرت معجزات الأنبياء، وأنكرت أن الله ﷿ نجى إبراهيم من النار، وأنكرت أن يونس ﵇ ابتلعه الحوت، وأنكرت الإسراء والمعراج للنبي ﵊، وقالت: إنما ذلك تهيؤات وتخيلات! لماذا؟! وأقحمت هذا الفصل في رسالتها في علم النفس، ولا علاقة لهذا الفصل بأصل الرسالة، وحازت على مرتبة الشرف الأولى! وهناك مشكلة قائمة بين جامعات مصر وجامعة عين شمس التي منحت هذه الرسالة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والذي يقف معها ويؤيدها أكثر من الذي ينكر عليها أنها أنكرت معلومًا من دين الله بالضرورة.
وإنا لا ندري إلى أي حد ستستمر هذه المهزلة، مهزلة زعزعة الثوابت في حياة المسلمين وفي معتقدهم.
1 / 8
شفاعة النبي ﷺ لأهل الكبائر
والشفاعة لأهل الكبائر على جهة الخصوص ثابتة للنبي ﵊، وما مضى من آثار إنما وردت في إثبات الشفاعة العامة لأهل الموقف إلا من كان مشركًا كافرًا.
وأما أهل الكبائر فلهم شفاعة خاصة بهم؛ أصحاب الزنا والقتل والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك من كبائر المعاصي، فإن الله ﷿ قد حرم هذا، وجعله من كبائر الذنوب، وليعلم صاحب الكبيرة أن الله ﷿ إما أن يأذن في الشفاعة له وإما لا يأذن، فهو على خطر عظيم؛ ولذلك إقامة الحد على صاحب الكبيرة كفارة له، فإن تاب وتصدع قلبه ندمًا وحسرة على كبيرته تاب الله ﷿ عليه: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان:٧٠]، ومن مات مصرًا عليها فهو في مشيئة الله: إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
وعن أبي هريرة ﵁ قال: (قلت: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال النبي ﵊: يا أبا هريرة! لقد ظننت ألا يسألني عن هذا الحديث أول منك -يعني: لقد ظننت أنه لا يسألني أحد قبلك- لما رأيت من حرصك على الحديث والعلم؛ أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه)، وفي رواية: (صادقًا من قلبه)، وفي رواية: (على ما كان عليه من عمل)، يعني: يقول: لا إله إلا الله ويأتي بمقتضياتها وواجباتها وملزوماتها، فالعبد إذا قال: لا إله إلا الله، وأبغض الله وأبغض الرسول، وحارب الله وحارب الرسول، وحارب القرآن والسنة هل تنفعه لا إله إلا الله؟ لا والله لا تنفعه؛ لأن (لا إله إلا الله) لها شروط ومقتضيات لابد أن يحققها العبد، وإلا فهو على خطر عظيم جدًا بين يدي الله ﷿ يوم القيامة.
وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة ﵁ أن النبي ﵊ قال: (لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة).
فاللهم ارزقنا شفاعته ﵊.
وقال النبي ﵊ فيما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته -كل نبي دعا بدعوته في الدنيا- وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا)، أي: فهي مصيبة كل واحد من أمتي مات لا يشرك بالله شيئًا، أي: أنها من حظ كل مسلم مات على التوحيد وإن كان صاحب كبيرة، لكن ذلك مشروط بمشيئة الله ﷿.
وأخرج ابن ماجة من حديث أبي موسى الأشعري ﵁ قال: قال النبي ﵊: (خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل الله ﷿ نصف أمتي الجنة، فاخترت الشفاعة)، فاختار الشفاعة؛ لأنها تنال أكثر من نصف الأمة في الموقف، فاختار النبي ﵊ الشفاعة حرصًا على عصاة أمته، والدعاء المأثور: (اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته) والمقام المحمود: هو الشفاعة، قال النبي ﵊: (من سأل الله لي الوسيلة والفضيلة حلت له الشفاعة) أي: وجبت له شفاعتي يوم القيامة.
وعند الترمذي من حديث أبي أمامة ﵁ قال: سمعت النبي ﵊ يقول: (وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفًا لا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفًا وثلاث حثيات من حثيات ربي)، انظروا إلى هذا الفضل العظيم، يعني: سبعون ألفًا في سبعين ألفًا، زد على ذلك ثلاث حثيات يحثوها الرب ﵎ بيمينه، وهي من حثيات الرب لا من حثيات العبد.
وجاء عند أحمد من حديث أبي هريرة ﵁ تمامًا لهذا الحديث: (فقال النبي ﵊: أي رب! إن لم يكن هؤلاء مهاجري أمتي.
قال: إذًا: أكملهم لك من الأعراب).
وعند البيهقي من حديث أنس ﵁ قال: قال النبي ﵊: (إن الله ﷿ وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف، فقال أبو بكر: زدنا يا رسول الله! قال: وهكذا وجمع يديه -أي: يحثو حثوة رب العزة ﵎ فقال: زدنا يا رسول الله! قال: وهكذا -أي: حثا بيديه بحثيات الرحمن ﵎ فقال عمر لـ أبي بكر: حسبك.
-أي: كفى هذا- فقال أبو بكر ﵁ لـ عمر: دعني يا عمر! وما عليك أن يدخلنا الجنة كلنا؟!)، أبو بكر الصديق ﵁ لما سمع النبي ﵊ يقول: (
1 / 9
شفاعة الله ﷿ والملائكة والمؤمنين
وكذلك يشفع الله ﷿ والملائكة والمؤمنون، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: (قلنا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كان صحوًا -يعني: ليس بينكم وبينها ضباب ولا سحاب ولا غيم-؟ قلنا: لا.
قال: فإنكم لا تضارون ولا تضامون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون في رؤيتهما -أي: في الشمس والقمر ليس دونها سحاب-، ثم قال: ينادي مناد.
ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم؛ حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر -ومعنى فاجر: صاحب كبيرة أو صاحب معصية، ولكنه موحد غير مشرك- وغبرات من أهل الكتاب، ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيرًا ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا)، انظر إلى الدناءة: نريد أن تسقينا شربة ماء؛ لأن الموقف رهيب عصيب، الشمس تدنو من رءوس الخلائق حتى تكون منهم على قدر ميل، والميل: هو المرود الذي تكتحل به المرأة، فتصور أنكم تمكثون الآن في بيت من بيوت الله، وكل واحد منا يتصبب عرقًا، وبيننا وبين الشمس مئات الملايين من الأميال! فلو أن الشمس دنت من رأسك حتى كان بينك وبينها قدر عقدة أو عقدتين من عقد أصابعك ماذا تصنع؟ ولذلك يغرق الناس في عرقهم حتى يلجموا إلجامًا، (ما تريدون؟ قالوا: أن تسقينا).
ولذلك جاء في سنن أبي داود: (اللهم أدخلني القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال له أبوه: ليس هكذا يا بني! فإني سمعت النبي ﵊ يقول: سيأتي أقوام من بعدي يعتدون في الدعاء والطهور، قال: فماذا أقول يا أبي؟! قال: إذا دعوت فقل: اللهم ارزقني الفردوس الأعلى)، اللهم ارزقني الفردوس الأعلى وإياكم.
هؤلاء اليهود تدنو همتهم حتى في المحشر، وحتى في هذا الموقف العصيب، حتى لا يتمنوا إلا شربة ماء، وينسيهم الله ﷿ أن يطلبوا دخول الجنة أو أن يطلبوا الشفاعة.
(فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم، ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم، حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟! فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منا إليهم، وإنا سمعنا مناديًا ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر إلهنا ومعبودنا، قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه أول مرة عليها -أي: في أول المحشر- فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا؟ فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها -هل هناك علامة تعرفون بها الله ﷿ يوم القيامة-؟ فيقولون: الساق -أي: ساق الرحمن ﵎ نعرفه بها، فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيقع ظهره طبقًا واحدًا، ثم يؤتى بالجسر -أي: جسر جهنم- فيجعل بين ظهري جهنم، قلنا: يا رسول الله! وما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة، عليه خطاطيف وكلاليب، وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء تكون بنجد، يقال لها: السعدان، المؤمن عليها كالبرق وكالطرف وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم ليسحب سحبًا، فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمن يومئذ للجبار، وإذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم يقولون: ربنا إخواننا الذين كانوا يصلون معنا ويصومون معنا)، فانظر إلى شفاعة المؤمنين بعضهم لبعض.
(يقولون: ربنا إخواننا الذين كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا؟ فيقول الله تعالى: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله تعالى صورهم على النار، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه فيخرجون من عرفوا، قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني فاقرءوا قول الله ﷿: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾ [النساء:٤٠]، فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار وهي بكف الرحمن، فيخرج أقوامًا قد امتحشوا -أي: قد صاروا فحمًا من فحم جهنم- فيلقون في نهر بأفواه الجنة -أي: على أطراف الجنة- هذا النهر يسمى نهر الحياة، وماؤه يسمى ماء الحياة، فينبتون في حافتيه كما تنبت الحبة في حميل السيل قد رأيتموها إلى جانب الصخرة وإلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض،
1 / 10
شفاعة الأفراط لآبائهم
وهناك شفاعة عزيزة جدًا، شفاعة الأولاد الصغار لآبائهم.
أخرج أحمد من حديث أبي هريرة ﵁ قال: قال النبي ﵊: (إن الله ﷿ ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب! أنى لي هذه -يعني: كيف بلغت هذه المرتبة العالية في الجنة ولم أعمل عملًا أكافأ بها-؟ قال: باستغفار ولدك الصالح لك).
فلا ينفعك إلا ولدك الصالح، أما الطالح فلا، فإن شئت أن تربيه على المعصية والفجور فهو لن ينفعك، وإن ربيته على الصلاح فهو ينفعك؛ فلذلك قال النبي ﵊: (ثلاثة تنفع العبد بعد موته: ولد صالح يدعو له).
وعند مسلم من حديث أبي حسان قال: (قلت لـ أبي هريرة: إنه قد مات لي ابنان -مات لي ولدان- فما أنت بمحدثي عن رسول الله ﵊ حديثًا تطيب به أنفسنا عن موتانا؟ قال: صغارهم دعاميص الجنة يتلقى أحدهم أباه -وفي رواية: أبويه- فيأخذ بثوبه -أو قال: بيده- كما آخذ أنا بصنفة ثوبك الآن، فلا يتناهى ولا ينتهي حتى يدخله الله الجنة وأبويه).
يعني: يأتي الرجل يوم القيامة وقد مات له ولد أو ولدان أو ثلاثة، فإذا كان يوم القيامة تمسك الأولاد بأثواب وتلاليب آبائهم وأقسموا على الله ﷿ ألا يدخلوا حتى يكون الداخل قبلهم آباؤهم وأمهاتهم، وتلك شفاعة الصغار الذين ماتوا قبل أن يبلغوا الحلم، وقبل أن يجري عليهم القلم.
ولذلك قال ﵊: (ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث -أي: لم يبلغوا الإثم والذنب- إلا أدخلهم الله وأبويهم بفضل رحمته الجنة.
وقال: يقال لهم: ادخلوا الجنة، قال: فيقولون: حتى يجيء أبوانا ثلاث مرات، فيقولون مثل ذلك، فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم).
هذه شفاعة الصغار لآبائهم.
1 / 11
أسباب الشفاعة
أسباب الشفاعة منها القرآن الكريم كما ورد في الحديث: أن النبي ﵊ قال: (القرآن والصيام يشفعان للعبد، فيقول الصيام: يا رب! أظمأت نهاره فشفعني فيه، ويقول القرآن: يا رب! أسهرت ليله فشفعني فيه)، وقال ﵊: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه).
وكذلك سكنى المدينة ممن لهم شفاعة خاصة، ولذلك قال النبي ﵊: (فإني أشفع لأهل البقيع)، وفي رواية: جاء أبو سعيد مولى المهري إلى أبي سعيد الخدري ليالي الحرة، فاستشاره في الجلاء من المدينة وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، وأخبره أنه لا صبر له على بلاء المدينة وجهدها، فقال له: ويحك! لا آمرك بالجلاء عنها -أي: لا آمرك أن تذهب وتترك المدينة- إني سمعت النبي ﵊ يقول: (لا يصبر أحد على لأوائها -أي: شدتها- فيموت إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة إذا كان مسلمًا).
وفي رواية: أن النبي ﵊ يقول: (والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون).
ويكفي أن المدينة لا يدخلها الدجال، فهي معصومة مأمونة من هذه الفتنة التي هي أعظم فتنة بين يدي الساعة.
والصلاة على النبي ﵊ كذلك تستجلب شفاعته ﵊، ففي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند مسلم: أن النبي ﵊ قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة).
وصلاة المصلين على الميت له شفاعة، أخرج مسلم من حديث عائشة ﵂ قالت: قال النبي ﵊: (ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه) ما من ميت يموت فتصلي عليه أمة يبلغون مائة شخص إلا شفعوا فيه.
ومن حديث عبد الله بن عباس: (أنه مات ابن له بعسفان فقال لمولاه كريب: يا كريب! انظر ما اجتمع له من الناس -يعني: انظر كم عدد الذين اجتمعوا- قال: فخرجت، فإذا ناس قد اجتمعوا له فأخبرته، فقال: تقول يا كريب! إنهم أربعون؟ فخرجت فعددتهم، فقلت: نعم.
قال: أخرجوا الميت؛ فإني سمعت النبي ﵊ يقول: ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله فيه).
ولكن انظروا إلى الشرط: (لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله فيه)، أنت الآن لو نظرت إلى كثير ممن يصلي على الأموات وتحققت هذا الشرط لوجدت أنهم يشركون بالله شيئًا، ولرجع إليك الطرف خاسئًا حاسرًا، ثلاثة أرباع -إن لم يكن أزيد- يشركون بالله في الدعاء والاستغاثة والنذر والذبح والطواف وغير ذلك.
وكان النبي ﵊ يقول لخادمه: (ألك حاجة؟ قال: حتى كان ذات يوم، فقال لخادمه: ألك حاجة؟ فقال: نعم.
قال: ما هي؟ قلت: يا رسول الله! حاجتي أن تشفع لي يوم القيامة.
قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)، إذًا: طول الصلاة وتحسينها وإخلاص العمل فيها لله ﷿ يجلب شفاعة النبي ﵊ يوم القيامة.
1 / 12
موانع الشفاعة
قال ﵊: (إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة) وهذا مانع من موانع الشهادة والشفاعة: أن المرء سباب لعان شتام مؤذٍ مجرم فليست له الشفاعة، بل ربما لا يحصل على شفاعة غيره من الشفعاء، من الملائكة والنبيين وصالح المؤمنين.
وهناك شفاعة لها تعلق بالدنيا، قال الله تعالى: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ [النساء:٨٥].
قال الحافظ ابن كثير: «مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا» أي: من يسعى في أمر فيترتب عليه خير كان له في هذا الخير نصيب، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته، كما ثبت في الصحيح: (اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء).
وعند البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري: (كان النبي ﵊ إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال: اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء).
وهناك أمور لا تحل الشفاعة فيها في الدنيا، منها الحدود إذا بلغت السلطان فإنه لا شفاعة فيها، بل ليس للسلطان أن يقيم الحد أو لا يقيمه؛ لأن الله تعالى أوجب عليه قيام الحد إذا بلغه؛ ولذلك ثبت عند البخاري ومسلم من حديث عائشة ﵂: (أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت.
قالوا: من يكلم فيها رسول الله؟ من يشفع فيها عند الرسول؟ قالوا: ومن يجترئ على ذلك إلا أسامة بن زيد، فهو حبه وابن حبه، فذهب أسامة ليشفع، فقال النبي ﵊: أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟! ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، فلا شفاعة في الحدود.
وعند أبي داود عن يحيى بن راشد قال: (خرجنا لـ عبد الله بن عمر فخرج إلينا، فقال: سمعت النبي ﵊ يقول: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله وحاد الله، ومن خاصم في باطل وهو يعلم أنه باطل لم يزل في سخط الله حتى ينزع عنه، ومن قال في مؤمن ما ليس منه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال).
وعن أنس ﵁ عن النبي ﵊ قال: (من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله تعالى ﷿ عليه ملكًا يسدده).
من طلب الشفاعة في القضاء بشفاعة الشفعاء أوكله الله ﷿ لنفسه، ومن حمل على هذه المنزلة سخر الله ﷿ له ملكًا يسدده ويثبته.
أسأل الله ﵎ أن يرزقني وإياكم شفاعة الملائكة والنبيين وصالح المؤمنين.
اللهم ارزقنا شفاعة نبيك محمد ﵊ اللهم ارزقنا شفاعة نبيك محمد ﵊ اللهم ارزقنا شفاعة نبيك محمد ﵊.
اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكل ذلك عندنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
1 / 13
الدفاع عن الله ورسوله وشرعه - الدفاع عن موسى ﵇
لقد بين العلماء حقيقة لطمة موسى لملك الموت ﵉ وأنه لا مطعن في الحديث الراوي لها، ذلك أنه لما أمر الله تعالى ملك الموت بقبض روح موسى ﵊ تمثل ملك الموت لموسى ﵉ في صورة آدمي وفاجأه بقوله: أجب ربك، فلطمه موسى حتى فقأ عينه؛ لأنه لم يكن يعلم أنه ملك الموت، ولأنه فاجأه بالكلام ولم يستأذنه، وظن موسى أن الرجل صائل فأراد دفعه وصده.
2 / 1
بيان مقالة مفتر على الصحيحين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢] ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يقول أحد الملاحدة: إن الذي دس الروايات الإجرامية هو البخاري ومسلم! فهذا المجرم والملحد والزنديق ما تعلم أدب الحوار وأدب المناقشة العلمية حتى رمى خصمه بالإجرام، وأنه دس في عقيدة الأمة ما ليس من عقيدتها، فيقول: حتى يهدم فينا العقيدة الصحيحة، ويوقع بيننا وبين ربنا سبحانه فيحول بيننا وبين رضاه جل شأنه، فتشقى أمتنا بذلك إلى يوم الدين، وحسبنا الله ونعم الوكيل! ترى من فعل هذا؟ هي والله ما دست، إنما هي صحيحة النسبة إلى نبينا ﵊، فالدفاع عن هذا الحديث وجلاء أمره إنما يلزمه بيان عدة أمور قبل أن أدخل فيه: الأمر الأول: الكلام عن الملائكة، وعن خلق الله ﵎ للملائكة، فالملائكة عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور كما خلق الجن أو الجان من نار، وكما خلقك أنت من تراب، فأصل الخلق عند الملائكة يختلف عن أصل الخلق عند الجان، ويختلف عن أصل الخلق عند الإنسان، فالله ﷿ خلق الملائكة من نور، وهم أجسام لا أرواح، ولذلك فإن الله ﵎ جاعل الملائكة رسلًا أولي أجنحة، والأجنحة لا تكون إلا في الأجساد، أما الأرواح فلا أجنحة لها، وخلقهم الله ﷿ من نور وجعلهم طائعين لهم متذللين خاضعين، ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم:٦]، وموسى ﵇ مأمور بالإيمان بملك الموت، بل وبجميع الملائكة؛ لأن هذا أصل الإيمان في كل شريعة جاء بها رسول أو نبي.
إذًا: الذي يكفر بملك واحد كالذي يكفر بجميع الملائكة، والذي يكفر بنبي واحد كالذي يكفر بجميع الأنبياء، وهذا وجه من وجوه تكفير اليهود والنصارى أنهم آمنوا بموسى وبعيسى وكفروا بمحمد ﵊، فاستحقوا أن يكونوا كفارًا بعيسى وبموسى عليهما الصلاة والسلام.
وهذا وجه من وجوه تكفيرهم.
والملائكة هم خلق من خلق الله، وقد أمر الله ﵎ بقية الخلق أن يؤمنوا بأن الله تعالى خلق الملائكة وجعل لكل ملك مهمة يقوم بها، فمنهم من كلف بالوحي، ومنهم من كلف بالمطر، ومنهم من كلف بالرعد، ومنهم من كلف بكتابة الحسنات والسيئات، ومنهم من كلف بقبض الأرواح، وهو ملك الموت المعلوم عند كثير من الناس أنه عزرائيل، وهذه التسمية لملك الموت تسمية غير صحيحة، فإن اسمه الذي سماه الله تعالى به هو ملك الموت لا عزرائيل، وليس في الملائكة قط ملك اسمه عزرائيل، وجعل الله تعالى لكل ملك رسالة ومهمة يقوم بها، لا يقصر في أدائها، ورسالة ملك الموت إنما هي قبض الأرواح، وقد جاء في ذلك آيات كثيرة، فموسى ﵇ مكلف أن يؤمن بملك الموت لا بضربه وفقء عينه، فلم فقأ عينه؟!
2 / 2
الجمع بين آيات الإخبار عمن يتوفى الأنفس
قبل الجواب عن هذا السؤال نقول: إنه قد وردت ثلاث آيات في كتاب الله فيما يتعلق بمهمة قبض الروح، الله ﵎ يقول: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ [السجدة:١١]، هذه الآية تقضي بأن ملك الموت هو الذي يميت ويقبض الأرواح من الأبدان، وهذا لا خلاف عليه بل هو مستقر معلوم في أذهان العامة فضلًا عن أهل العلم، فإذا قبضها سلمها إلى رسل آخرين ليصعدوا بها إلى الله ﷿، ولذلك هذا تأويل الآية الثانية: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام:٦١]، (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) أي: كانوا في انتظار عند رأسه في حال الاحتضار، فالذي يتولى نزع الروح هو ملك الموت، ثم الذي يتولى استلام الروح من ملك الموت هم هؤلاء الرسل، فيصنعون بها ما أمرهم الله ﷿ به، فإذا كان صاحب هذه الروح من أهل الجنة فإنهم ينتظرون عند رأسه ومعهم حنوط من حنوط الجنة، وكفن من أكفان الجنة، فيلفون تلك الروح في حنوط الجنة وكفن الجنة، فيصعدون بها حتى يبلغوا بها السماء السابعة، فيقول الله ﷿: اكتبوا كتاب عبدي هذا في عليين، ثم أعيدوه إلى الأرض.
فتعاد الروح إلى الأرض وقد قبر الميت ودفن جسده فتركب فيه الروح، فيقام ويقعد ويسأله منكر ونكير، وهو حي حياة برزخية تليق بالبرزخ، فيسأل: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فيقول: ربي الله، ونبيي محمد ﷺ، وديني هو الإسلام، فينيمانه نومة العروس، ويفتح له في قبره حتى يكون مد بصره ويكون له روضة من رياض الجنة.
وإذا كان صاحب هذه الروح من أهل النار فإنهم يكون معهم حنوط من حنوط النار، وكفن من أكفان النار، فيلفون هذه الروح في هذا الحنوط وفي هذا الكفن، فإذا أرادوا أن يصعدوا بها أغلقت السماء دونها، فيقول الله ﷿: اكتبوا كتاب عبدي في سجيل، أي: في أسفل سافلين، فتعاد الروح إلى البدن، فيسأل في قبره: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فيقول: هاه.
هاه هاه.
كأنه لا يدري ما يقول؛ لأنه لم يكن عاملًا بمقتضى هذه الأسئلة في الدنيا، فلا بد أن يشقى بها في حياته الدنيوية وفي برزخه وبين يدي الله ﷿.
والآية الثالثة تقول: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر:٤٢].
فالمتوفي حقيقة هو الله ﷿؛ لأنه الآمر لملك الموت بقبض الروح فينسب الفعل إليه، كما لو أن فلانًا انتصر في غزوة كذا، فنقول: إن النبي ﷺ انتصر في غزوة بدر مع أن النبي ﵊ لم يكن في غزوة بدر وحده، ولكنه لما كان القائد الأعلى والآمر بهذه الغزوة ينسب النصر إليه، فالله ﷿ -ولله المثل الأعلى- لما كان هو الآمر لملك الموت بقبض الروح نسبت الوفاة إليه فكان هو المتوفي في الحقيقة، وهذا تأويل قول الله ﷿: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر:٤٢]، فلا إشكال حينئذ بين هذه الآيات الثلاث، حتى لا يقول قائل: لقد وقعت على اختلاف وتضاد في كلام الله ﷿! ف
الجواب
﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء:٨٢]، فلما كان من عند الله يقينًا دل هذا على أنه ليس فيه اختلاف البتة، والله تعالى قادر على أن يهلك أعداءه، قال الله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ﴾ [فاطر:١]، أي: يزيد في خلق الأجنحة للملائكة ما يشاء، (والنبي ﵊ رأى جبريل ﵇ على صورته التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح قد سد الأفق) وقد جاء في رواية: (أن جناحًا واحدًا يسد الأفق) يعني: لو أراد ناظر أن ينظر إلى السماء ما رأى من السماء شيئًا، لا نجمًا ولا قمرًا ولا شمسًا ولا ضبابًا ولا غيمًا؛ بسبب جناح واحد من أجنحة ملك واحد، فما بالكم بملك قد ركب فيه ستمائة جناح، من يقوى عليه؟! والله تعالى خلق ملكًا واحدًا ووكله بالجبال فهو يحفظها بأمر الله، وأنتم تعلمون أن ملك الجبال أتى إلى النبي ﵊ وقال له: (لو شئت يا محمد لأطبقت عليهم الأخشبين)، أي: لهدمت عليهم الجبلين، فقال النبي ﵊: (لعل الله تعالى أن يخرج من أصلابهم من يعبده) وفي رواية: (من يوحده).
فالنبي ﷺ عفا عنهم وكان بإمكانه أن يأمر ملك الجبال فيأتي بعاليها على سافلها، وبسافلها على عاليها، ولكنه عفا وأصلح.
فالملائكة غلاظ شداد، لا يقوى على أحدهم موسى ﵇، ولكن الملاحدة أبوا إلا أن يرفعوا عقيرتهم في هذا الزمان لأنه لا حارس، من أراد أن يطعن في الله فليتفضل! ومن أراد أن يطعن في الرسول فليفعل! وم
2 / 3
صور الدفاع عن موسى ﵊ في لطمه ملك الموت
ثم الدفاع عن موسى بعد ذلك يأتي في صور: أولها: أن الله تعالى أرسل ملك الموت إلى موسى رسالة ابتلاء واختبار، لينظر ماذا يصنع موسى، والله ﵎ عالم بما يصنع موسى، لكنها على أية حال رسالة ابتلاء واختبار، والله ﵎ لما أمر إبراهيم ﵇ بذبح ولده لم يكن يريد هذا الأمر؛ لأن إبراهيم ﵇ لما عزم على ذبح ولده وتله للجبين، أي: ألقاه على جبينه، وأراد أن يذبحه، فجاءه الله ﷿ بالذبح العظيم.
إذًا: الله ﷿ أراد بهذا ابتلاء إبراهيم واختبار إبراهيم ليظهر إيمان إبراهيم، وغير ذلك.
وكذلك الملائكة تتصور في غير صورتها، وإذا تصورت في غير صورتها لا يعرفها أحد حتى الأنبياء والمرسلون، ألا ترون أن الملائكة أتوا إلى إبراهيم ﵇ فأوجس منهم خيفة، فقالوا: لا تخف.
ثم إنه عد هؤلاء أضيافًا، وجاءهم بعجل حنيذ وقربه إليهم وقال: ألا تأكلون؟ قالوا: إنا رسل ربك، فلو رأى إبراهيم ﵊ ملائكة الله على الهيئة والوصف الذي خلقهم الله ﷿ عليه لبهت، ولكنه ولأول مرة يرى ملائكة قد تصوروا في صورة آدميين، وأوجس منهم خيفة؛ لأنهم أضياف لا يعرفهم، فقام بواجب الضيافة إليهم فذبح العجل وقربه إليهم، فاعتذروا لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون.
والنبي ﵊ لما جاءه جبريل فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه ثم سأله عن الإيمان وعن الإسلام وعن الإحسان وأشراط الساعة فأجاب النبي ﵊ على أسئلته، ثم أمر الصحابة أن يحضروه مرة أخرى، فذهبوا ليأتوا به، والمدينة صغيرة يرى فيها كل الناس فضلًا عن الغريب، فلما ذهبوا ليلتمسوه لم يجدوا أحدًا، فقالوا: ما وجدناه يا رسول الله؟ قال: إنه جبريل، في وقت الأسئلة لم يفطن النبي ﵊ إلى أنه جبريل، لحكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها، وهي رؤية النبي ﵊ والصحابة للملائكة، كما أن هذه القدرة -وهي التصور في صورة غير الصورة الحقيقة التي خلقهم الله ﷿ عليها- كانت كذلك للجن والشياطين، فإنهم يتصورون في صورة طير وحيوان ودواب وإنسان.
فإن النبي ﵊ كلف أبا هريرة ﵁ بحراسة بيت المال، فأتاه شيطان في صورة إنسان يشكو فاقة وفقرًا وعيالًا، فقال: أعطني فإني صاحب عيال وذو فاقة، ثم أتاه في الليلة الثانية ففعل مثلما فعل في الأولى، ثم أتاه في الليلة الثالثة ففعل مثلما فعل في الليلتين السابقتين، وفي كل ليلة يقول النبي ﵊ لـ أبي هريرة: (ماذا فعل صاحبك؟ قال: يا رسول الله! أتاني رجل فسألني حاجة وقال إنه ذو فقر وذو عيال) وفي الليلة الثالثة لما امتنع أبو هريرة عن إعطاء هذا الرجل شيئًا، قال: ألا أعلمك آية في كتاب الله لو قلتها من الصباح لا يزال عليك من الله حافظ حتى المساء، ولو قلتها في المساء لا يزال عليك من الله حافظ حتى الصباح.
فقال: بلى.
قال: اقرأ آية الكرسي حين تصبح وحين تمسي، فلما قال أبو هريرة للنبي ﵊: إنه قال لي كيت وكيت فقال النبي ﷺ: (صدقك وهو كذوب).
فقوله: (صدقك) هذا كلام حق لا مصلحة؛ لأن يكذب فيه الشيطان، ولكن الأصل فيه أنه كذاب، بل كذوب، فتبين أن الملائكة إنما منحهم الله ﵎ القدرة على أن يتشكلوا في غير الصورة التي خلقهم عليها وأنهم أجساد نورانية لهم أجنحة.
هذا الكلام ستأتي فائدته فيما بعد بإذن الله تعالى.
وبعض الشرائع تتفق مع بعضها في بعض الأحكام، فهذا جبريل ﵇ نزل إلى نبينا ﵊ وصلى به الخمس الفرائض في أول الوقت مرة وفي آخرها مرة، وقال: (يا محمد! هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك).
إذًا: الأنبياء كانوا مكلفين بفرض الصلاة في مواقيت معينة ومحددة، وتبين بهذا النص أن بعض الشرائع تتفق مع بعضها، ولذلك لما سئل النبي ﵊ عن النظر في كتب بني إسرائيل قال: (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، قال العلماء: ما وافق من شريعة من قبلنا شريعتنا يعمل به استئناسًا، وإذا خالف شرع من قبلنا شرعنا لا نعمل به، وإذا لم يخالف ولم يوافق فنحن مخيرون بين العمل به وتركه.
قال النبي ﵊: (من نظر في دار أخيه بغير إذنه ففقأ عينه فلا حرج عليه ولا قود).
ومعنى فلا حرج عليه، أي: لا يقاد، فلا يطبق هنا العين بالعين والسن بالسن، لأنه انتهك حرمة البيت، فكان جزاؤه من جنس عمله، ولأن صاحب الدار دافع عن نفسه، وعن حريمه، وعن أهل بيته.
ويقول النبي ﷺ: (إنما جعل الاستئذان لأجل النظر)، فإذا صوبت عينيك في البيت ثم طرقت الباب فما قيمة هذا الطرق؟! والشرع إنما أوجب علينا الاستئذان وطرق الباب وصرف البصر إلى الناحية الأخرى حتى لا نقع على محارم أصحاب البيت فنستاء من ذلك إن كنا
2 / 4
بيان تأويل قصة موسى في لطمته لملك الموت ﵉
فموسى ﵇ فوجئ في داره برجل لا بملك، والملك كان يأتي عيانًا لقبض الأرواح، وهذا فرق بين رحمة الله لهذه الأمة وبين ما جعله على الأمم السابقة، أن ملك الموت كان يأتي على صورته التي خلقه الله عليها لمن أراد أن يقبض روحه، وكم من إنسان قبض روحه في مجلس موسى، فرأى موسى ملك الموت على صورته التي خلقه الله عليها كما رآه من جاء إليه ملك الموت ليقبض روحه، أما غيره فإنهم لا يرون ملك الموت، بل لا يراه إلا من جاءه الموت.
أما الأنبياء والمرسلون فإن الحجب قد كشفت لهم فرأوا الملائكة، فقد قال النبي ﷺ في جنازة سعد بن معاذ ﵁ الذي اهتز له عرش الرحمن: (والله! لم يكن هناك شبر أو موضع أربع أصابع في السماء إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد).
وهذا يبين أن النبي ﵊ قد كشفت له الحجب حتى رأى الملائكة وهم على هذا النحو، فكذلك موسى ﵇، ولكن لما أتى ملك الموت ولأول مرة في صورة رجل غريب لا يعرفه موسى ﵇، ثم فوجئ موسى بأنه في داخل داره ويقول له: أجب ربك.
لأن موسى لما رآه في داره قام إليه فلطمه، وهذا من باب دفع المعتدي، والنبي ﷺ يقول: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد)، فهذا موسى ﵇ قد اتفقت شريعته مع شريعة محمد ﵊ في دفع الصائل ومقاتلة من دخل الدار بغير إذن، وأنا أصر على أنه قام إلى الرجل ولم يقم إلى ملك الموت، ولكن ملك الموت قال له لما لطم: أجب ربك.
قال العلماء: وما المانع أن يكون موسى قد ظن أن ملك الموت لما لطم وفقئت عينه قال لموسى أجب ربك تعوذًا وهروبًا أن تفقأ عينه الأخرى؟! وأنتم تعلمون أن التعوذ في مثل هذه المواطن أمر قد وقع فيه كثير من الناس، فصعد ملك الموت إلى الله بعينه التي فقئت، فقال: يا رب! إنك أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت وفقأ عيني، فرد الله ﷿ على ملك الموت عينه؛ لأنه أراد أن يبقى في صورته قبل التحول على خلقته التي تخلق فيها لا على أصل صورته التي عليها أولًا، فلما ردت عينه أتى هذا الرجل إلى موسى ﵇ في صورة الرجل الذي أتاه أول مرة، وقال: يا موسى! الله تعالى يقول لك: آلحياة تريد؟ وهنا لا بد من وقفة عظيمة، وهي أنه ما من نبي مرض مرض الموت إلا خير بين الدنيا والآخرة، والنبي ﵊ كما جاء ذلك في الصحيحين من حديث عائشة قالت: (غشي على النبي ﵊ وهو في حجري.
ثم أفاق، فأشخص بصره إلى السماء، ثم قال: اللهم الرفيق الأعلى، فعلمت أنه خُيِّر).
وفي حديث أبي سعيد الخدري ﵁ قال: قال النبي ﷺ: (ما من نبي أتاه أجله إلا خير بين الموت والحياة).
فما من نبي قبضه ربه إلا بعد أن خيره، ولما أتى ملك الموت إلى موسى ﵇ في أول مرة لم يخيره، وإنما دخل عليه ففوجئ موسى برجل غريب فقام إليه فلطمه ففقأ عينه، فصعد الملك ثم نزل، فقال: يا موسى! الله تعالى يقول لك: آلحياة تريد؟ وهذا هو التخيير، فلما علم موسى أنه ملك الموت وأنه تصور بصورة رجل، وأن موسى يعلم علمًا يقينًا أنه لن يقبض حتى يخير، فلما لم يخير في الأولى وخير في الثانية علم أن هذا الرجل الذي أتاه أولًا هو الذي أتاه ثانيًا، ولكنه في هذه المرة أتاه بالعلامة التي ينتظرها موسى، فقال: الله تعالى يقول لك: آلحياة تريد؟ فوقف موسى ولم يلطمه؛ لأنه عرف وهو مؤمن به، والأصل أن من آمن بأحد استجاب وامتثل أمره، فقال ملك الموت: الله تعالى يقول إذا كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ظهر ثور، فلك بكل شعرة غطتها يدك سنة، ولكن موسى سأل: ثم ماذا؟ أي: بعد هذه الآلاف السنين بعدد شعر رأس الثور.
قال: الموت.
لأن كل شيء هالك إلا وجهه، ومعنى التخيير: إذا كنت تريد البقاء فلك ذلك، وإذا كنت تريد الموت فلك ذلك، واعلم أنك لو اخترت البقاء فستختاره بإذنك وأمرك وبينك وبين ربك علامة، وهي أنك ستعيش بكل شعرة غطتها يدك من جلد الثور عامًا كاملًا، قال موسى: ثم ماذا؟ قال: الموت.
قال: فالآن.
فموسى ﵇ لم يكن محبًا للحياة ولم يكن كارهًا للقاء الله، وإنما ظن أن الذي دخل عليه رجل غريب يريد أن ينتهك حرمة بيته، فدافع عن نفسه، والمعلوم في كل الشرائع أن الدفاع عن النفس مباح وجائز على قدر ما يدفع به الصائل، فإن دخل عليك رجل يريد أن يأخذ مالك، وينتهك عرضك، ولا يمكن دفعه إلا بالقتل؛ فالقتل جائز، وإذا كان دفعه بالضرب يؤدي المهمة فقتله غير مباح، وإذا كان تخويفه حتى يهرب من البيت فلا يجوز ضربه، وهذه أحكام الصائل، فلما لم يندفع هذا الرجل وثبت في موقفه وقال: أجب ربك، ومعنى (أجب ربك) أي: سلمني روحك أقبضها، وهذا كلام يخرج من الآدميين، أنا إذا أردت أن أهدد واحدًا بالقتل قلت له: سلم لي نفسك أنا سأقتلك، أو سأزهق روحك، وهذا الذي حدث من م
2 / 5
مناقب موسى ﵇
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على الرسول المصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأصلي وأسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأزواجه وأهل بيته إلى يوم الدين.
أما بعد: جاء في مناقب موسى ﵇ أنه كان رجلًا حييًا، مهذب الخلق، أرسل في قوم لا حياء لهم، ولا خلق لهم كما جاء من حديث أبي هريرة ﵁ في الصحيحين وغيرهما أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى بعض، وهذا الخلق موجود إلى الآن في حمامات السباحة، وفي شواطئ البحار والأنهار والترع وغيرها، خاصة في الريف، فإن الناس يتجردون من ملابسهم كيوم ولدتهم أمهاتهم ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، فهذا الخلق إنما هو خلق اليهود لا أخلاق المسلمين، فكان بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى ﵇ رجلًا حييًا يغتسل وحده، وفي هذا جواز الاغتسال عريانًا في الأماكن البعيدة عن الأنظار، والأولى ستر العورة؛ لأن الله تعالى أحق أن يستحيا منه، فقال بنو إسرائيل لما رأوا موسى ﵇ يغتسل وحده ويبتعد عنهم: إنه آدر.
أي: به عيب خلقي، وهو أنه عظيم الخصيتين.
وقيل: (آدِر)، ومن هنا تأتي خطورة قولك لعبد القادر: يا عبد الآدِر؛ لأن الآدر عيب، والله تعالى لا يتسمى باسم فيه عيب، بل هو المتصف بالكمال والجلال والمسمى بالأسماء الحسنى سبحانه، فلا بد من قولك ونداءك لعبد القادر يا عبد القادر، يا عبد الخالق، وليس (يا عبد الخالئ!) بالهمز، هذا خطأ عظيم جدًا في الاعتقاد وفي جناب المولى ﷿، بل لا بد من نداء العبد الذي انتسب إلى الله في التسمية بما سمى الله ﵎ به نفسه، نحو: يا عبد الخالق، يا عبد القادر، وغير ذلك.
قالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر.
قال الرسول ﷺ: (فذهب موسى مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر) يعني: على عادة من ينزل البحر فإنه يخلع ثوبه ويجعله على حجر أو على الشط ثم ينزل الماء، قال: (ففر الحجر بثوبه) أي: بثوب موسى ﵇، (فجنح موسى خلفه) أي: فأسرع موسى خلف الحجر.
(ويقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر.
ويضربه بالعصا حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى) لأن موسى ظل يجري خلف الحجر حتى دخل في ملأ وفي جمع من بني إسرائيل، فرأوا موسى على هذا النحو دون أن يقصد موسى أن يظهر عورته، ولكنه انشغل بالجري والإسراع خلف الحجر ليأخذ ثوبه وملابسه، وإلا فكيف يفعل موسى حينئذ؟ (قالوا: والله ما بموسى من بأس) أي: لما رأوه.
انظروا إلى سفالة ووقاحة اليهود أنهم يسبون ويتهمون ويعيبون نبيهم، ثم لما رأوه رأي العين قالوا: والله ما به من بأس، ولذلك قال الله ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ [الأحزاب:٦٩]، فهذه تزكية الله تعالى لموسى: (وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا).
قال: (فأخذ موسى وطفق بالحجر ضربًا وقال أبو هريرة: إن بالحجر ندبًا -أي: أثر الضرب- ستة أو سبعة)، فبقي أثر الضرب على الحجر إلى زمن الصحابة حتى رأوها عليه، ليعتبر من اعتبر، وإن شئت فقل: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال:٤٢].
وفي هذا الحديث معجزتين لموسى ﵇: أن الحجر مشى بثوبه حتى وصل إلى بني إسرائيل، وإظهار براءة موسى أمام قومه وملئه، وهذا ليس فيه كبير ما ينكر، وليس فيه غضاضة، فإن الحجر سلم على النبي ﷺ في مكة، وإن الجذع الذي كان يقف عليه النبي ﷺ حين يخطب الناس، فلما صنع للنبي ﷺ منبر ووقف عليه كان الجذع بجواره، فلما ترك النبي ﷺ الوقوف بجوار الجذع ووقف على المنبر بكى الجذع، حتى سمع له صوت وبكاء، فليس بغريب أن يأتي هذا من الحجر بموسى ﵇.
وهذا الحديث فيه: إظهار ما ابتلي به الأنبياء والصالحون من أذى السفهاء والجهال وصبرهم على ذلك، والنبي ﵊ يقول: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل) ويقول: (إن الله ليبتلي عبده بالبلاء فإذا كان في دينه صلابة زيد له في البلاء حتى يمشي في الأرض وليس عليه خطيئة).
فالبلاء منحة من الله ﷿، إن كان عندك ذنب غفره، وإن لم يكن رفعت لك بهذا البلاء درجات، فالابتلاء إما تكفير للسيئات وإما رفع للدرجات.
وما نزل من البلاء بالأنبياء فله حكم آخر، منها: رفع الدرجات حتى يكونوا في أعلى عليين، في جنة عرضها السماوات والأرض، ومنها: أن الله ﵎ يبتلي الأنبياء حتى يكونوا قدوة لمن وقع به البلاء ممن أتى بعدهم من أممهم فيصبروا كما صبر أنبياؤهم، وغير ذلك من الحكم العظيمة.
وآخر فائدة أ
2 / 6
الدفاع عن الله ورسوله وشرعه - الرد على كتاب وليمة لأعشاب البحر
لقد أخبر النبي ﷺ بفتن كقطع الليل المظلم في آخر الزمان، وأخبر أنه يتقارب الزمان، وينقص العلم والعمل، ويكثر القتل، وتضيع الأمانة، فيتبع رءوس الزيغ والضلال كل ناعق ملحد، وما من زمن إلا والذي بعده شر منه، فيتجمع المنافقون والملحدون ومن باع دينه بعرض من الدنيا لمحاربة دين الله بالقوة تارة، وبالشبهات تارة، وبهدم أصول الدين تارة، وهذا هو دأب الأعداء في كل زمن وحين.
3 / 1