وقد أخذ الشعب الذي كان مفتونا بالملك يتطير به ويهم في أن يكيد له بعض الكيد ليصرف إليه وحده غضب الآلهة من دون المدينة. والكاهن ساخط على الملك؛ لأنه لا يخلص دينه للإله، بل لا يؤمن بالإله. وأبناء أوديب قد اختلفت أهواؤهم: فأما الشابان فقد تأثرا بأبيهما، فهما لا يؤمنان بشيء، ولا يرجوان لشيء وقارا، ولا يكرهان أن يصبوا إلى أختيهما، وأن يتحدثا إليهما كما يتحدثان فيما بينهما بهذه الصبوة الآثمة.
أما أنتيجون وجوكاست فمتأثرتان بالكاهن إلى أبعد حد، حتى إن الفتاة لتوشك أن تهب نفسها للإله. وأما كريون فناعم بالحياة في هذا القصر لا يحب أحدا ولا يكره أحدا، وإنما يحب نفسه، ويحب الحياة، ويستمتع بما يتاح له من لذاتها، ويحافظ على التقاليد ما وسعته المحافظة.
وعقدة القصة كلها هي الاختلاف بين أوديب الذي يعتد بنفسه حتى يبلغ الغرور وحتى يجحد الآلهة، والكاهن الذي يريد أن يبسط سلطان الدين، وأن يسيطر من طريق هذا السلطان على كل شيء، وعلى كل إنسان، وعلى نفس الملك خاصة. وليس الوباء الذي ألم بالمدينة، وليس البحث عن مصدر هذا الوباء، وليست استشارة الآلهة لتعرف هذا المصدر، وليس استكشاف المجرم الذي قتل أباه وتزوج أمه؛ ليس هذا كله إلا مظاهر لهذا الصراع بين حرية الإنسان واعتداده بنفسه حتى يبلغ الغرور، وبين سلطان الإله وتفوقه على غرور الإنسان.
فإذا تبينت الحقيقة وعرف أوديب أن سعادته لم تكن إلا غرورا، وأن انتصاره على أبي الهول لم يكن إلا سرابا، وأن ملكه الذي أسسه ونعم به لم يكن إلا امتحانا؛ إذا عرف أوديب هذا كله، ورأى امرأته وأمه قد قتلت نفسها، ورأى نفسه قد فقأ عينيه بيديه، ظن الكاهن تيرسياس
Tirésias
أن الإله قد انتصر على غرور الإنسان، وأن أوديب قد ثاب إلى رشده، وأذعن لسلطان الدين.
ولكن أوديب لم يخرج عن كبريائه، ولم يستسلم للمحنة، ولم يعترف بالهزيمة، وإنما ثبت للخطب، بل هو لم يفقأ عينيه إلا تحديا لنفسه وللناس وللألم، ومحاولة لبناء مجد جديد من طراز آخر معنوي غير هذا المجد الزائل الذي كسبه حين قهر أبا الهول وأسس الملك.
وهو حين ينفي نفسه من الأرض لا يفارق المدينة منهزما ولا مخذولا، وإنما يفارقها يائسا. لم يقهر اليأس نفسه وإنما رفعها فوق الناس وفوق أعراض الحياة، وهو ينصرف ساخرا من الشعب الذي أحبه، ثم كرهه، ثم أخذ يتملقه حين عرف أن بركة الآلهة متصلة بشخصه، وينصرف ساخرا من كريون المحافظ الذي يرى الملك كل شيء، وينصرف ساخرا من ابنيه اللذين لا يفكران في الحياة إلا على أنها وسيلة إلى المتاع، وينصرف ساخرا من الكاهن الذي يعظه ويريد أن يحمله على الندم؛ فهو لا يرى أنه قد فعل شيئا يمكن أن يندم عليه.
هذه هي القصة التي وضعها أندريه جيد، وهي كما ترى قريبة جدا من القصة اليونانية في موضوعها وفي غايتها، بعيدة جدا من القصة في صورتها من ناحية، وإن احتفظت بالجوقة، وفي إتقانها للتفكير، وتجنبها للتكلف الشعري الغنائي الذي قد يروق ويعجب، ولكنه لا يغني عن التفكير العقلي شيئا.
ولست أدري أمخطئ أنا أم مصيب، ولكني أعتقد أن هاتين القصتين: قصة سوفوكل وقصة أندريه جيد هما وحدهما اللتان تشهدان بأن محنة أوديب خليقة حقا بأن تكون موضوعا للتفكير الذي يغذو العقل، والفن الذي يغذو القلب، وبأن تكون من أجل ذلك صالحة لتفكير الفلاسفة وابتكار الأدباء على مر العصور واختلاف الأجيال.
Неизвестная страница